شاب أهيف، يعتمر العمامة البيضاء، ومن الشعراء المجيدين، حمل رسائل من وجهاء أهل العراق (1919) مع قافلة جمال عبر البصرة ونجد، إلى الحجاز حيث يقيم الشريف الحسين بن علي (ت 1931)، يطلب منه أن يتولى أحد أنجاله عرش العراق، وعرض قضية بلاده في المحافل الأوروبية، بعد ملاحظة تهاون الإنجليز، وقبلها كان ضمن الوفود المفاوضة، فانتصب وسط مجلس الحاكم العام قائلاً: "إن الشعب العراقي يرتئي أن الموصل جزء من العراق، وأن العراقيين يرون من حقهم أن تتألف حكومة وطنية مستقلة استقلالاً تاماً، وليس فينا من يفكر في اختيار حاكم أجنبي" (الشبيبي في شبابه السياسي). وبهذا وغيره كان أحد مؤسسي الدولة الحديثة. ذلك الشاب هو محمد رضا الشبيبي (ت 1965) والد الخبير المالي سنان الشبيبي. تلك الأسرة الجنوبية الأصل والنجفية المنشأ، أسرة شعراء وأدباء ولها القدح المعلى في المعارضات والحكومات. رثى محمد رضا الشبيبي باخرةَ تيتانيك ونشر مرثيته حال غرقها (1912)، ومنها: "بأبيك أقسم يا ابنة البحر الذي/ وأراك كيف رأيت فتك أبيك/ ما حط ثقلكِ في حشاه إهانة/ لكنه فرط احتفال فيكِ" (لغة العرب). المغزى، من أين أتى صاحب العمامة، وفي رملة النجف، ليتجاوز الحدود الدينية والقومية فيرثي غرقى من شتى الأمم، بينما حرمت عمائم معاصرة الرحمة على جوبز مخترع الآيفون والآي باد، وهما وسيلتان استخدمهما المانعون الترحم على مخترعهما لنفث فتاويهم القاتلة. فالأمر يحتاج إلى أنسنة لتلك العقول المتوحشة. إن بُعد عمامة الشبيبي عن الظلاميين، والأفندية أكثر ظلامية من معتمري العمائم، جعلته منفتحاً على الجهات الأربع. إذا نُسي لآل الشبيي شعر وأدب فمن له نسيان بيت عم سنان محمد باقر الشبيبي (ت 1960)، الذي ظلت الأجيال تردده (الهلالي، الشاعر الثائر): "المستشار هو الذي شرب الطلاء/ فعلام يا هذا الوزير تعربدُ" (1929). لا أظن أن هذه الأيام، المعسرات بالتخلف والتعصب لأفكار تدور حول نفسها فتقمع النبل في النفوس، ستجود بأهل عمائم وازنوا بين الدارين، فلم يمنعهم تدينهم من استقبال كوكب الشرق (ت 1975)، عندما زارت بغداد (1932). ليس لي القدرة على تفسير المفارقة التي كانت عليها النجف، فهي الحاضرة الدينية ذات التزمت الظاهر أن تَلد شيخاً مثل محمد جواد الشبيبي (ت 1944). رحب الشبيبي الجد بالسيدة، من دون خلل. كان رجل موازنة حقاً: "فهو في الوقت الذي كان يجلس إلى جنب العلامة السعيد في القرن التاسع عشر عاش فاستقبل أم كلثوم" (الخاقاني، شعراء الغري). قال: "قُمرَيّة الدوح يا ذات التَّرانيم/ مع النُّسور على ورد الرَّدى حومي"! بطبيعة الحال، إن رثاء غرقى تيتانيك واستقبال أم كلثوم يُعدان في الأذهان المظلمة خروجاً على العرف والدِّين، مع أن العصر الذي عاشه آل الشبيبي لم يسجل مثلبة مالية ولا أخلاقية ولا إشاعة شعوذة عبر الدولة، وهم كانوا نواب برلمان ورؤساء مجالس أمة وأعياناً ووزراء ورؤساء مجامع علمية. في هذه الأسرة المضيئة العقول ولد سنان الشبيبي، ولد ووالده وزيراً ونائباً ورئيس مجلس أعيان وأديباً يُشار إليه بالبنان، ومثلما تجري المتاجرة بالشهداء، فشقيقه أسعد الشبيبي كان من المقتولين في النظام السابق، لكن لا سنان ولا آل الشبيبي رفعوا لافتة لقتيلهم أو طالبوا بالثمن، مثلما أخذ الأحياء الأثمان عن جهاد أو نضال الغالب منه أكاذيب. المقصد لم يأت سنان من كهف بل أتى من دوحة مفتوحة الأرجاء، ولا من ادعاء ونفاق في حزب ديني، وعندما اختير لترؤس السلطة المالية فلأنه الأكفأ. لا خلل فيه، فهو صاحب أعلمية ونزاهة عاليتين، سوى أنه غير مطيع. يرى حصول التجاوز على الاحتياطي لفك حصار جارتنا، وفي الوزارات والدوائر يفسد به إفساد الجراد في الزروع، وتكاد صورة الإعرابي لا تفارقني، ينظر إلى حقله وقد عاث به الجراد، فصور جرأة الفاسدين أدق تصوير: "مرَّ الجرادُ على زرعي فقلت له/ إياك إياك أن تعمل بإفساد/ فقام منهم خطيب فوق سنبلة/ إنا على سفر لابد من زاد" (الجاحظ، البيان والتبيين). ثقوا أن الفاسدين الكبار يفكرون تفكير الجراد، متيقنين أنهم على سفر، ينظرون إلى الطرق الخارجية أي طريق يسلكون، ومنهم ارتحل وجعل ما نهب وسادة يضع رأسه عليها، أما الضمير فهامد همود أهل القبور. سيقال لنا، لماذا لم تتحدثوا عن استقلالية السلطة المالية والقضائية، ومفوضية الانتخابات، ومؤسسة النزاهة، عند السابقين؟ نقول: إنهم كانوا صادقين في استبدادهم، لم يدعوا الديمقراطية ولم يركبوا مركبها، أما النظام الآن فيتجه إلى الاستبداد بثوب ديمقراطي. إن استقلال تلك المؤسسات عن السلطة التنفيذية هو الضامن لوجود ما يمكن تسميته بالديمقراطية. نقول: طالعوا الدستور أليس فيه مادة تشرع استقلال البنك والمحكمة ومفوضية الانتخابات ومؤسسة النزاهة؟! فالكل الآن ارتبط بالسلطة التنفيذية، أما القضاء فكان ارتباطه مبكراً، وإلا ورقة الاجتثاث ستطيح برؤسائه. سنان الشبيبي الذي صدرت ضده مذكرة اعتقال لن يكون هو الأخير، وفي قضيته وقضية رئيس النزاهة ومفوضية الانتخابات لا تلعب الطَّائفية لعبتها بين مذهب وآخر، مثلما حصل مع آخرين، إنما هي طائفية من نوع آخر، بين حليق اللحية والملتحي، بين المؤتمن والفاسد، بين العالم ونقيضه، فالعالم في المال لديه قوانين وسبل يتلزم بها، درسها ومارسها وهو خبير في الأمم المتحدة، وكبريات داوئر المال العالمية، أما غير العارف في هذه الأعراف عندما يطلب صرف المال ولا يستجاب له يصرخ: "اشگ أهدومي" (أمزق ثيابي)، هذا ما قاله رئيس وزراء العراق لسنان الشبيبي أمام ملأ. إنه أسلوب النادبات، لا رؤساء يليقون بإدارة ثروة كثروة العراق! إن قضية سنان الشبيبي، وهي لا تخصه كشخص إنما هي ظاهرة، نعتبرها مسماراً آخرَ في نعش الديمقراطية، ومثالاً صارخاً على الاستقواء بالقضاء، ومحاولة تملك البلاد والعباد، فأي المشاريع أعطى ثمرته، وأي الوزارات والدوائر خلت من الفساد، أو حققت خطتها المفترضة! كان وجود سنان الشبيبي صاحب الكفاءة والنَّزاهة مظهراً مريحاً يمكن أن يبنى عليه أمل من الآمال، هذا ما كان يحدسه جده محمد جواد الشبيبي قائلاً: "واضيعة الأكفاء بعد مناصب/ حُفظت مقاعدها لغير كفاة" (الغبان، المعارك الأدبية).