تقليد الضعيف للقوي وانبهاره به عادة إنسانية قديمة، وهو ليس بسلوك ينحصر في مجتمع ما أو في زمن ما... فقد يصبح الضعيف المنبهِرُ بالآخر قويّاً منبَهَراً به! هذا ما حصل للعرب من الغساسنة والمناذرة الذين كانوا منبهرين بالفرس والروم. وبعد أن جاءت رسالة الإسلام وقويت شوكتهم وأسسوا حضارة إسلامية بلغت المشرق والمغرب، انقلبت الآية فأصبح المسلمون محطّ إعجاب وانبهار الأمم الأخرى، حتى كان الملوك في أوروبا يبعثون بأبنائهم إلى بغداد ودمشق وقرطبة لتعلم العربية والتزود بما توصل إليه المسلمون من علوم وفنون وحضارة. ثم دارت الأيام وانقلبت الأحوال فنهض الغربيون من ظُلمتهم، بينما تراجع المسلمون، فتولّوا هم قيادة قطار الحضارة البشرية، في الوقت الذي تخلفنا فيه نحن عن الركب.. وهذا ما يُعرف بمنحنى ابن خلدون لتداول الحضارات. إن الإعجاب والانبهار بما عند القوي من تطور علمي وتكنولوجي وحضاري مطلب ضروري إذا كان الباعث على ذلك الرغبة في التطوير والاستفادة بما عنده من علوم ومعارف ونظم وحضارة مادية متطورة، وأن يكون المرء انتقائياً فيختار ما يناسب عقيدته ودينه، وينبذ ما يخالف ذلك من عادات وسلوكيات ومعتقدات. لقد فعل اليابانيون ذلك عندما تعلموا من الأوروبيين بعض أهم الصناعات ونقلوها إلى بلادهم وأبدعوا فيها بحيث فاقت ما لدى الغرب. وحالياً هناك أمم أخرى بدأت تتصدر الحضارات البشرية وتأخذ مكان الريادة حالياً كالصين والهند والبرازيل. أما الانبهار المذموم فهو الذي يكون نابعاً من العجب وحب التقليد وضعف الشخصية بالتركيز إما على الشكليات والمظاهر المادية والثقافية واستهلاك منتجات الآخرين والرطانة بلغاتهم في الحياة اليومية، أو بالانبهار بالأفكار والإيديولوجيات والقيم الحياتية مثل الشيوعية الماركسية أو العلمانية المتطرفة. وقد وقع في الانبهار المذموم بعض النخب المثقفة والعامة أيضاً حتى صار واقع حال بعض مجتمعاتنا العربية كأنه تقليدٌ للآخر دون القدرة على الإنتاج والابتكار. وهناك أمثلة عديدة للانبهار المذموم، منها على سبيل المثال موقف البعض من تعلم الإنجليزية، حيث أصبح هناك من يهتم بتعليم أبنائه اللغة الإنجليزية أشد الحرص ولو كان ذلك على حساب اللغة العربية. وتراه يفتخر بأن أبناءه لا يتحدثون إلا بالإنجليزية في حياتهم اليومية. وهذا مظهر من مظاهر الانبهار المذموم عندما يصبح تعلم الإنجليزية بحد ذاته هدفاً لدى كثيرين لتحقيق الذات والمكانة الاجتماعية وليس غاية أو وسيلة مهمة لكسب المعارف. وبعض مثقفينا منبهر بفلاسفة الغرب إلى درجة أنه لا يكاد يجلس في مجلس أو يكتب مقالة إلا ويظهر قدرته على الاستشهاد بأقوالهم ونظرياتهم الفلسفية.. فيمطرُك بمقولات أفلاطون، والشك الفلسفي لدى ديكارت، ونظريات كانط، وأفكار نيتشه، وغيرهم كثير، ولكنه لا يكاد يستشهد بآية من القرآن الكريم أو بحديث شريف أو قول مأثور من علماء العرب والمسلمين. فالمشكلة لدى هذا المثقف ليست في معرفة فلسفات الغرب ومفكريهم، وإنما في أخذها كلها وعلى مجملها دون تمحيص. إن هذين المثالين وغيرهما كثير فيما يتعلق بسلوكنا الاستهلاكي والعادات الدخيلة والنزعة الفردية إنما هما من مظاهر الانبهار المذموم، وهو الذي يؤدي إلى الانصهار وبالتالي يؤدي إلى الاندثار! وليتنا نسترشد بالهدي النبوي في مقولة "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها"، ولم ننبهر إلا بما عند غيرنا من الحكمة، وتركنا الغث الذي لا يناسبنا وركزنا فقط على السمين الذي يغطي نقصنا وحاجتنا.