ملتقى الاتحاد الأخير في أبوظبي استدعى من المتدخلين والمعقبين البارزين من الوطن العربي والإسلامي جهداً علمياً فعلياً تجاوزوا من خلاله محدودية بعض الملتقيات والتآليف العربية الموسومة بمنظورها الضيق، لينبني في نفس الوقت وعي استراتيجي وسياسي في آن واحد، ما يستدعي منا نحن المثقفين التعمق، وليس مجرد دراسات محدودة أو إعلان نيات كما هو دأب بعض الإصدارات العربية، أو استبدالات لغوية، تنتبه إلى القشور فيما تذهل عن المضامين الحقيقية والدلالات؛ ولا غرو أن يكون هذا هو ما ينقص بالضبط في عالمنا العربي ولعقود، لأننا دائماً ما أبينا إحكام النقد في مجتمعاتنا الفكرية واكتفينا بنشر مبادئ محاولين زرعها دون أن نقوم بإنتاج عقل استراتيجي، سياسي عربي حديث قابل لأن يتداخل تداخلًا نظرياً تاريخياً ناجحاً مع معضلات السياسة الداخلية والخارجية والاقتصاد والدولة والمجتمع فيقدم حولها معرفة علمية ويساهم بها في ترشيد التوجيه والممارسة: ممارسة عملية التغيير والتقدم. ودائماً ما أحيي الدراسات التي لها دلالات نقدية واستشرافية لعلنا نحن المفكرين يجد الناس من ألسنتنا وأقلامنا نصائح تنفع العباد والبلاد؛ فالخطأ كل الخطأ هو أن يظن ظان أن دراسته العلمية تقتضي منه الوصف لا أكثر... وهذا خطأ كبير، وحتى العلوم الاجتماعية بما فيها العلوم السياسية ما سميت أصلاً بالعلوم سوى: 1) لأنها قابلة للتطور وإلا حكم عليها بالجمود. 2) ولأن بعض النتائج يمكن تعريضها للنقد العلمي المستمر أي تفنيدها. 3) كما أن تلكم النتائج يمكن تعميمها. 4) أي استخراج الدروس والعبر منها والتجارب الصالحة في الزمان والمكان... فرجل السياسة ورجل الدولة ومتخذ القرار والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والنقابات تجد في الدراسات العلمية خاصة المقارنة منها في المجال الدستوري والإداري والانتخابي ومجال الشغل ما يجعلها تبحث عن المفيد منها في إعمال القوانين والمراسيم وغيرها... وهذا هو شغل الفقيه القانوني والمتخصص في العلوم السياسية المقارنة والعلاقات الدولية... إذ عليه أن يستحضر في ذهنه هذه المسلَّمات العلمية والتربوية وإلا كانت أعماله صرعى كأنها أعجاز نخل خاوية... وإذا طلب مني في هذا المقام أن أخرج بدرس واحد استشرافي صالح لبعض الأوطان في المجال السياسي العربي الذي تبين للخاص والعام أنه هجين حيث الشرعية الصورية حملت على سرير القوة والإذعان لتَجدع أنوف الناس؛ لتدخل الشرعية في أزمة بنيوية تَأَجَّلَ انفجارها لأسباب عملية عدة، إلى أن بلغت من التراكم حداً جعل اندلاعها أمراً مقضياً؛ فاستولت على أهل النظام الأيام، وأباد خضراءهم الهرم فطبختهم الدولة، وأكل الدهر عليهم وشرب بما أرهفت الأزمات الاجتماعية من حدهم، واشتفت غريزة التفاقم والاستفحال من حكمهم... لو طلب مني ذلك لوجدت هذا الدرس في تفعيل مزايا الميثاق السياسي والميثاق التعاقدي بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة لتأهيل الأرضية لانتقال وتثبيت ديمقراطي حكيم يغني الشعوب عقوداً من الفوضى والمجهول... والميثاق السياسي هو "اتفاق بين مجموعة قوى ساعية لتحديد -أو إعادة تحديد- القواعد التي تحكم ممارسة السلطة على قاعدة ضمانات متبادلة للمصالح الحيوية لكل الأطراف المشاركة في العملية"، وهي بذلك تكون جامعة لبعض الشروط الأساسية:- -إنه اتفاق صريح ولو لم يكن معللًا علناً بين مجموعة القوى السياسية، أي النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة والمجال السياسي العام. -إن قاعدة الضمانات المتبادلة تكون محترمة، بحيث إن طرفي المعادلة يحرصان على عدم المساس بالمصالح الحيوية لكل طرف. -إن قاعدة التنازلات المتبادلة يجب أن تكون مقرونة بجهد فكري وميداني بل ورياضي يجعل كل طرف يعي حدود التنازلات وحساسية المجال التفاوضي السياسي. -خلق الدعائم المؤسساتية القبلية التي تسمح بجعل العروض السياسية الجوهرية مقننة وعقلانية بالدرجة التي لا يمكن للفئة الأخرى أن ترى فيها نوعاً من التهديد الذي يمكن أن يقوض العقد السياسي. وهذا الميثاق التعاقدي "السلطوي" بحسب تعبير بريسوفسكي (Preworski) يستلزم ثقة متبادلة بين الأطراف ومخرجاً عقلانياً حتى تصبح المعادلة إيجابية، وإذا كانت سلبية فإن الآليات الديمقراطية تتعثر في الحين. وبالنسبة للمخرج الإيجابي يجب على الأطراف أن تختار المعادلة التالية: النصر غير النهائي أو الجزئي (المكسب) -الخسارة النسبية (المجازفة)، بدل المعادلة الأخرى: النصر المطلق أو الفوز الكامل (المكسب) -الهزيمة المطلقة (المجازفة). وفي آخر هذا المطاف يؤدي الميثاق التعاقدي إلى استحكام هياكل الديمقراطية في حال المعادلة الإيجابية أو على العكس من ذلك إلى فشله في حال المعادلة السلبية (جزائر تسعينيات القرن الماضي) أو عدم وجودها بالأساس (حكم بن علي) والميثاق التعاقدي قد طبق مثلًا في التجربة المغربية. وذكري للمغرب ليس دفاعاً عن سياسته الداخلية لكوني مغربياً ولكنها حقيقة يجب الإشادة بها، وأن الأنواع الأربعة للانتقالات الديمقراطية (عن طريق التدخل الأجنبي، أو تأثير الدول الأجنبية، أو الثورة، أو الميثاق التعاقدي)، تعطي المكانة المتميزة للميثاق التعاقدي لأنها تقي البلاد والعباد من ويلات الفوضى واللامسؤولية التي تولد في الفترة الممتدة بين الانتقال الديمقراطي وتثبيت الديمقراطية وهي الكفيلة بإحداث ثورة ديمقراطية هادئة بعيداً عن ويلات الفوضى واللامجهول وإمكانية الرجوع إلى سلطوية أشد فتكاً وأكثر خديعة ومكراً. ويلعب الحكام دوراً كبيراً في خلق وإحكام هذا الميثاق وإلا تركت الشعوب مقولة كانط "الحرب سيئة من حيث إنها تخلق من الأشرار أكثر مما تزيل" واستعانت بمقولة هيجل الذي اعتبر الحروب بمثابة رياح تغييرية تحرك ركود المجتمعات وتمنعها من التأسن، وأترك كل حكيم يتصور معي ما كان سيقع لو أن صدام وبشار وبن علي وغيرهم طبقوا قواعد الميثاق التعاقدي في بلدانهم.