في العشرين من أكتوبر التأم شمل كتّاب جريدة الاتحاد على عادتها السنوية التي بدأتها منذ سنواتٍ سبعٍ، وكان عنوان المنتدى هذه السنة هو "المشهد العربي... ومسارات التحول" وقد ألقيت في المنتدى عدد من الأوراق القيّمة، والتي حظيت كالعادة بتعقيباتٍ مجدولةٍ وتعليقات ثريةٍ وجدالات مهمةٍ. تقسّمت الأوراق على جلستين، الأولى عنيت بالربيع العربي وإشكالاته ومستقبله، والثانية بالاتحاد الخليجي. ما لاحظه كاتب هذه السطور هو اختلاف لهجة أغلب الحضور عمّا كانت عليه في نفس المنتدى العام الماضي 2011، وهو اختلاف في التوصيف والآمال المعقودة على الاحتجاجات العربية، وبالتالي اختلاف في الرؤية العامة، مع إصرار القلة على أنّ ما جرى كان عظيماً ولا يزال عظيماً، وهو مشهد مصغّر يختصر المشهد الثقافي العربي بأسره. الاحتجاجات والانتفاضات العربية كانت دون شكٍ حدثاً ضخماً وحادثة تاريخية استثنائية، ولكنّ كثيراً من المثقفين العرب اندفعوا وتحمّسوا لها في لحظةٍ مضطربةٍ يصبح اليوم فيها كشهر في غيرها من لحظات الاستقرار، كانت طروحات هؤلاء المثقفين تتحدّث عن أمور ثلاثة: الأول، هو أن ما جرى هو ثورات كبرى مجيدة ونزيهة ستنقل العالم العربي نحو الأفضل، وتمّ تشبيهها بثورات فرنسا وأميركا. وقد ثبت الآن أنّ هذا الكلام غير صحيحٍ، فهي لم تكن ثوراتٍ بل كانت احتجاجات وانتفاضات كبرى وجدل التسمية ليس ترفاً بحالٍ، بل هو شديد الأهمية لما له من تبعاتٍ في توصيفه وسبل التعامل معه، وهي لا تشبه بحالٍ الثورتين الفرنسية والأميركية، بل هي نموذجٌ مستقلٌ، وإن لزم التشبيه فهي أقرب للثورة الروسية ولو بالنتيجة على الأقل، حيث سيطر الحزب الشيوعي على مقاليد السلطة، وهو حزب مؤدلج ومنظم وقد جرى في دول الاحتجاجات العربية وصول الجماعات الأصولية المؤدلجة والمنظمة لسدة الحكم، وعلى لهيب الواقع احترقت كل تلك الأحلام الوردية التي روجتها تلك النخب. الثاني، تنادت تلك النخب المثقفة حينها لإحياء مقولة سقوط النخب أو موتها وصعود الجماهير، وأنّ الشباب الثائر هو الذي أسقط الأنظمة، وهو الذي سيغير المعادلات الكبرى في الدول العربية، وقامت سوق نفاقٍ متبادلٍ بين النخب والجماهير، فالنخب تبرّر للجماهير حماقاتها وغوغائيتها، والجماهير تزداد قناعة بأهميتها الزائفة عبر دعم النخب لخياراتها، وأنّها لو لم تكن على طريقة صحيحة لقامت النخب بنقدها، وهكذا في دائرة لا ينتج عنها إلا مزيد من الجهل والغوغائية، ومع ذلك فقد بقيت بعض النخب مكانها وخرجت نخبٌ جديدةٌ، وظلّت النخبة نخبةً والجماهير جماهير، ثم إنّه اتضح الآن أن الشباب الثائر لم يسقط الأنظمة بل الفاعل الحقيقي في إسقاط تلك الأنظمة أمران: الأول، الضغوط الأميركية الهائلة، والثاني، انحياز الجيوش للشعب خاصة في نموذجي تونس ومصر، ولا أدلّ على هذا من المقارنة بين ما جرى بتونس ومصر وما يجري في سوريا، ففي تونس ومصر كانت أميركا تسابق الشارع، وقد انحاز الجيش للشعب، أمّا في سوريا، فإنّ الشباب السوري فعل ما لم يفعله شباب تونس ومصر واليمن مجتمعين ولم يحدث شيءٌ لأن أميركا والغرب لم يحددا موقفهما ولأن الجيش انحاز للنظام. الثالث، كانت النخب تتحدّث عن الجماعات والتيارات الأصولية باعتبارها لا تشكل أي خطرٍ يذكر، وتعلّقت تلك النخب بمقولة "فزّاعة الإسلاميين" وأنّهم لا قيمة لهم ولا تأثير، بل التأثير هو للشباب الثائر والمدني، وأنّه حتى لو وصلت تلك الجماعات لسدة الحكم فسوف تخرجها صناديق الاقتراع منه بكل سهولةٍ. وها هي الأحداث قد تجلّت عن قوّة هذه الجماعات الأصولية، ووصلت للحكم، وانتصرت في كل انتخابات أجريت، ولم يحصل الشباب الثائر على أي مقعدٍ في أي انتخابات، وبدأت بعد انتصارها في عمليات استحواذٍ واسعةٍ على كافة السلطات التي استطاعت الوصول إليها، ويبدو إخراجها من السلطة عبر صناديق الاقتراع أمراً بعيد المنال، واكتشفت تلك النخب أنّها كانت تقبض على الريح بأوهامها السابقة. بناءً على ما تقدّم، فقد لاحظ كاتب هذه السطور تغيراً في مواقف بعض المثقفين الذين اندفعوا خلف الاحتجاجات في بداياتها، فلم يعد الأكثر منهم يستخدم تسمية الثورة، بل أصبح التغيير هو المصطلح الأكثر تداولاً، وثبت لدى كثيرٍ منهم أنّنا قد خرجنا من حكم العسكر، ولكننا لم ندخل عصر الحكم الديموقراطي المدني، ولم يقرّ بعضهم بعد بأننا قد دخلنا في حقبة "الحكم الأصولي". من الأسئلة الكاشفة في هذا السياق هو هل الضمانات التي راهنت عليها تلك النخب بتجنّب الحكم الأصولي كانت فاعلةً أم مجرد أوهامٍ اتضح أنها كسرابٍ بقيعةٍ؟ ثم هل نحن نتجه أكثر نحو مدنية الدولة أم دينيتها؟ وهل نقترب أكثر نحو التسامح أم نحو التعصب والتشدد؟ وهل أولوياتنا اتجهت أكثر نحو التنمية والبناء والتقدم والرقي، أم نحو الأولويات الأصولية ومفرداتها كتطبيق الشريعة والأسلمة ونحوها؟ هذه نماذج لأسئلةٍ كاشفةٍ لمن لم يزل مقتنعاً بوردية المشهد والمستقبل. كانت الجلسة الثانية مخصصة للاتحاد الخليجي، وقد ألقيت فيها أوراق وتعليقاتٌ تناولت النظرة لهذا الاتحاد والضرورات الدافعة له والمعوّقات دونه، وأنّه على الرغم من كونه يمثّل طموحاً شعبياً لدى مواطني دول الخليج العربي، وكونه سينقل تأثير هذه الدول عالمياً لمصاف الدول العظمى إلا أنّ المعوّقات أمامه لم يتمّ تذليلها بعد، وأن بعض الخلافات بين دول المجلس تشكل أهم تلك المعوقات، ولا مخرج من ذلك كلّه إلا بالسعي التدريجي لتوحيد المؤسسات الكبرى، كالاقتصادية والعسكرية والأمنية كخطوةٍ مهمةٍ تتبعها خطوات أخرى نحو كونفدرالية خليجية فاعلة. لاحظ كاتب هذه السطور غياباً واضحاً لبعض المثقفين العرب من غير الدول الخليجية عن الجلسة الثانية المتعلقة بالاتحاد الخليجي، مقارنة بكثافة الحضور في الجلسة الأولى التي عنيت ببلاد "الربيع العربي". أخيراً، تباينت الرؤى والقراءات لما جرى في دول الاحتجاجات العربية منذ ما يقارب العامين، وقد ثبتت صحة بعضها وخطأ بعضها الآخر، وعلى الذهن أن يبقى متقداً في قراءة التطورات ورصد التغيرات حتى تستمر مقاربة المشهد أكثر صدقاً وصحةً. عبدالله بن بجاد العتيبي Bjad33@gmail.com