سافرت إلى تونس لحضور مؤتمر عن "الدولة والدين بعد الثورات" بدعوة من مركز دراسات الوحدة العربية، وفي الطائرة قرأتُ خبراً في إحدى الصحف عن اجتماع للسلفيين التونسيين قال فيه زعماؤهم علناً إنهم لم يعودوا يحتملون الضغوط المسلَّطة عليهم، وإن لم تتركهم السلطات وشأنهم فإنهم يخشون أن لا يستطيعوا ضبط أتباعهم أو تصبيرهم! وذكروا من تلك الضغوط أنهم ما انفردوا بالتعرض للسفارة الأميركية بتونس العاصمة بمناسبة الاحتجاج على الفيلم المسيء للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يتعرض للملاحقة غيرهم! ثم إن المنقبات ما زلن خارج الكليات الجامعية رغم شدة تضررهم وتضرر الدين من وراء ذلك، وما تزال الصحف والفضائيات تُدين إحراق بعضهم لمزارات والتعرض لمساجد، كما أن العلمانيين - لكن ليس العلمانيون وحدهم- صاروا يتعمدون تحديهم عبر تحدي الرموز الدينية! وفي اليوم التالي على وصولنا إلى تونس نشرت الصحف خبراً عن السلفيين المغاربة الذين صعدوا إلى قمة في جبال الأطلسي على ارتفاع أربعة آلاف وخمسمائة متر لإزالة بعض الكتابات القديمة على الصخور، وبقايا معبد وثني! وفي اليوم نفسه ذكرت صحف أجنبية أن سلفيين ليبيين عادوا للتعرض لبعض المساجد والمزارات التي كانوا قد هاجموها من قبل إزالةً للشرك والتقاليد المخالفة لشريعة الله، وفي اليوم الثالث اشتعل اشتباك بمصر في وسائل الإعلام، على المسودة الأولى للدستور، وكان السلفيون قد أصروا على إنهاء كل مادة تتعلق بالحريات أو حقوق الإنسان أو المساواة بين المرأة والرجل، بالعبارة التي صارت شهيرة: "بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية"! وهذا رغم بقاء المادة الثانية في الدستور والتي تقول: الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي في التشريع! وقد غصت الشهور الماضية بعشرات الحوادث التي تسبب بها السلفيون ضد المباني والمزارات والمساجد والآثار، وضد الناس بسبب اللباس أو الكلام، وضد بعضهم بعضاً أو ضد إسلاميين آخرين لأسباب لا تكاد تخطر على البال في أشد حالات التوتر والاضطراب. وأذكر أنني عبرت عن انزعاجي أمام بعض الليبيين عندما هاجم السلفيون هناك قبل شهور مزارات وزوايا ومساجد بطرابلس ومصراته وزليطن وواحة الكفرة، فابتسم الليبي المتدين وقال: وهل تظن أن هذه الحوادث جديدة أو فريدة؟! ولم أفهم ماذا قصد؟ إلى أن قال: لقد حصل الانفجار السلفي الأكبر في سبتمبر 2001، بل حصل ما هو أفظع في مطلع الثمانينيات عندما احتلت فرقة سلفية البيت الحرام بمكة المكرمة! وما عدتُ أذكر بالضبط بماذا أجبته، إنما قلت له ما معناه: لقد اعتبرنا تلك الظواهر شذوذاً محدوداً لا يمكن نسبته إلى السلفية العامة التي نعرفها، أما الآن فالظاهرة عامة شاملة ولم يخلُ منها بلد، ويتعذر اعتبارها ذات بُعدٍ سياسي من أي نوع، ولا تدعم بعضها حتى نصوص الشرع وظواهره! نعرف عن السلفيين منذ القديم، أنهم يكرهون زيارة القبور، ومزارات الصالحين، ويعتبرون ذلك كله من الشرك، وقد استشْرت هذه الظاهرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لكننا نعرف لهم دعوتهم للاجتهاد (ومنع التقليد)، كما نعرف أن أكثر فقه المصلحة والمقاصد إنما ظهر في القرن الخامس الهجري وما بعده في أوساط علمائهم الكبار مثل أبي يعلي وابن عقيل والطوفي.. وصولاً إلى ابن تيمية وابن قيّم الجوزية تلميذه. ثم إن الإحياء السلفي الذي استعلى مجدداً في القرن التاسع عشر كانت بيئاته المتشددة بالهند وأندونيسيا وبعض أجزاء الجزيرة العربية. لكن كانت له أولوياته التي لا تتقدم فيها اعتبارات الشرك المهدد، وصفاء العقيدة المرغوب. فإلى جانب الاجتهاد، كانت لدى فقهاء السلفية اهتمامات ببناء الحياة الإنسانية بالتكليف الأخلاقي، والتجديد في فقه المعاملات، وعدم الخضوع لتقليديات فقه الخلافة وعقائدياتها. وبقدر ما شكا العراقيون والحجازيون من تشدد السلفيين الجدد، فإن فقهاء يمنيين وهنوداً ومغاربة، اعتنقوا مبادئها من دون أن يغيّروا مذاهبهم الفقهية، لمصارعة التقليد والتواكل والطُرُقية، ومصارعة الاستعمار والاستبداد. وفي الواقع فإن الدولة السعودية الثالثة كانت خيراً على السلفية من حيث الاحتضان، وضبط التشدد، والإعانة على الانتشار، لكنها صارت عبئاً على الدولة، ومشكلة للدين من ثورانها الثالث في سبعينيات القرن الماضي. وتمثل سلبيات الثوران الأول في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في الخلط بين إرادة الإصلاح واعتقاد امتلاك الحقيقة، وفي شرعنة العنف واستحلاله باسم الدين، وفي اللجوء إلى ظواهر النصوص رغم الدعوة القوية للاجتهاد. وحدث الثوران الثاني للسلفيات في الأزمنة الحديثة خارج المشرق العربي والجزيرة، بشبه القارة الهندية وفي آسيا الوسطى وبلدان المغرب العربي، وتمثل بتشدد في مواجهة الاستعمار والتغريب. وظلّت له جوانب نهضوية في سائر الأنحاء. أما الثوران الثالث والذي تبلورت ظواهره الأولى في السبعينيات، فتميز ويتميز بالتشدد والتكفير والميل السريع للعنف. وقد حسبناه في البداية انشقاقاً عن السلفية المحافظة التي سادت في السعودية والخليج بتأثيرٍ من "الإخوان المسلمين". إذ المعروف عن السلفيات الاهتمام بالاعتقاد والسلوك الشخصي الملتزم، دونما توجهات سياسية، وقد شجعنا على الذهاب هذا المذهب المجموعة التي استولت على الحرم المكي عام 1980/1979 انتظاراً أو ظهوراً للمهدي بحسب الآثار عند أهل السنة، ثم تضاءل هذا الاعتقاد عندما ظهرت السلفية الجهادية، وتزايد التشدد والضيق بالآخرين حتى لدى الذين لا يرون استخدام العنف من السلفيين. ومنذ مطلع التسعينيات، واستناداً إلى تأمل للظواهر في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي والمهاجر، صِرتُ أرى -بخلاف المراقبين الغربيين- أن ظواهر الصحوة الإسلامية المختلفة لا علاقة لها بالعودة إلى التقليد. بل إنه إحياء ثائر يتجاوز حتى ما نعرفه عن الثورانات القديمة للسلفية. وأبرز ظواهره بالفعل حركة "الإخوان المسلمين" والأحزاب المشابهة. ولأن السلفية تمتلك رموزاً وتأصيليات لا يمتلكها غيرها فقد استعانت بها سائر الصحويات. لقد كان العالمان العربي والإسلامي خلال السنوات العشرين الماضية، مسرحاً لسائر تلك الصحويات المتفاصلة والمتلاحقة. ومع أن "القاعدة" أو السلفية الجهادية كانت أبرزها، فإن حركة "الإخوان" كانت الأوسع انتشاراً في المجتمعات وبصيغ مختلفة ومتقاربة. وعندما حدثت الثورات التي أطلقتها جماعات شابة متلائمة مع قيم العصر، هبّ "الإخوان" والسلفيون لقطف الثمار، فانتشرت شعبويات "الإخوان"، وتفجّرت احتقانات السلفيين. ومع أن السلفيين استطاعوا في فترة أشهر الحصول على تأييد رُبع جمهور العامة على وجه التقريب، حتى في المجتمعات المدنية، فإنهم ظلوا يميلون إلى اعتبار المجتمعات جاهلة أو غافلة عن الدين، ولا صحة لعقائدها وسلوكياتها. وهكذا ظهر انقسام الجمهور المتدين إلى ثلاث فرق: "الإخوان" والسلفيون والصوفية. و"الإخوان" مدنيون لكنهم شديدو القلق من التنوع المديني، والسلفيون ريفيون قادمون إلى المدن والبلدات، وهم شديدو العداء لظواهر الحداثة، وبعضهم لا يفهم التعددية ولا يُقِرها. وهكذا فإن تلاؤمهم سطحي جداً. ويزيد من قلقهم ميل الجمهور العام إلى "الإخوان" وإلى الصوفية الذين ما انخرطوا في الصراع على السلطة، ويبدون أكثر وداعة وسلاماً. ما يثيروه السلفيون، هم و"الإخوان"، من صراعات على السلطة باسم الدين، مضرٌ بالدين وبوحدة المجتمعات العربية واستقرارها وسلامها، واتجاهها لإنشاء سلطات منتظمة يسود فيها حكم القانون والإدارة الصالحة. وما كان العنف تجاه الولايات المتحدة والغرب باسم الدين صالحاً ولا مُجدياً، فكيف يكون مجدياً في مواجهة المسلمين الآخرين؟! أما نحن المعنيين بمستقبل الدول والمجتمعات، فعلينا أن نُصرَّ على جلب السلفيين وغيرهم إلى ساحات النقاش بشأن المُجدي والنافع والصالح للدنيا والدين، ولا علاج إلا بالحوار، أو تصبح الظواهر السلفية والإحيائية خطرة على الدين والمجتمعات!