اليوم تبدأ وفود الحج في العودة من رحلة العمر التي لبوا خلالها نداء إبراهيم عليه السلام، عندما أمره ربه بدعوة الناس إلى الحج "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم". فأسأل الله أن يكون حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وتجارة رابحة لن تبور. ومع عودة الناس من أداء النسك يتضح بصورة عملية أثر تلك العبادة عليهم، فالعبادة قربة من الله تعالى، ولكن فيها تزكية للنفوس وتربية للإنسان، كي يصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، فإنْ ألم الإعراض عن الله تعالى شديد تحمله على النفس. "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً" في الدنيا قبل الآخرة. والسؤال المحوري ما هي حالة الناس بعد هذه العبادة الشاقة والممتعة في الوقت نفسه؟ تأملت من الناحية التربوية والنفسية في حالة الناس بعد الحج، وأستطيع تصنيفهم إلى خمسة أصناف هي: المنتكسون والمتقلبون والمستقرون والمتحمسون المتزكون. الصنف الأول، وهم المنتكسون قوم رجعوا بعد الحج إلى حالة من النكوص النفسي، فاعتقاداً منهم أن الحاج يُغفر له ما تقدم من ذنبه دفعهم هذا الظن إلى أن يكونوا في حال أسوأ من الحالة التي ذهبوا بها، فترى الإغراق في المعاصي والآثام وعدم التورع عن الحرام. وفي حقيقة الأمر أن هذه الفئة من الناس ذهبت للحج بنية معلنة يرها الناس، وهي الحج، ونية أخرى لا يراها إلا الله تعالى، فترد عليهم عبادتهم ويظهر الأثر واضحاً عليهم بعد حجهم، حيث الهبوط إلى أسفل سافلين، لذلك قال العربي في مثلهم :إذا حججت بمال أصله سحت.... فما حججت لكن حجت العير. المتقلبون هم العائدون من الحج، وليس لهم استقرار يذكر، فتارة تجدهم في أعلى عليين، وفجأة هم في أسفل سافلين، إمعات في فكرهم يوجههم غيرهم لتحقيق أهدافهم، ولا تجد استقراراً يذكر في أخلاقهم، بل هم تبع لصحبتهم والجو المحيط بهم. المستقرون قوم يرجعون بعد الحج إلى حياتهم دون زيادة أو نقصان، فذاهبهم إلى الحج له أجره عند الله تعالى، لكن مدرسة الحج لم تؤثر فيهم، هم أفضل ممن قبلهم، لكن الحج كان فترة من الزمن في حياتهم مرت دون أثر يذكر، ربما لأن بعضهم ألف الحج حتى انعدم أثره في نفسه، أو ربما مارس طقوس الحج دون تفكر وتأمل، فلم يكن لها دور في التزكية يذكر. المتحمسون قوم رجعوا بعد الحج بطاقة دفعتهم إلى النشاط في العبادة لفترة وجيزة من الزمن، ربما لا تجاوز الشهر، فقد كان قبل الحج مثلاً لا يحافظ على صلاة الفجر في المسجد، لكنه بعد الحج رجع إلى المسجد لفترة ثم آثر النوم على بركة الفجر، نجد امرأة لم تتعود لبس الحجاب، بعد الحج التزمته فترة من الزمن، قبل أن تتسرب خصلات شعرها لتعلن مللها. المتزكون قوم تخرجوا من مدرسة الحج، كما أراد الله تعالى لهم، رتبوا أولوياتهم تابوا من كبائرهم واجتهدوا في التخلص من صغائر أعمالهم ، تخيروا من السنن ما يجبر خلل فرائضهم. هم أناس من قابلهم بعد الحج يقول لهم: لقد أضاء الله وجوهكم بالطاعة، تجد السعادة تنير قلوبهم، والعمل الصالح أصبح نهجهم. وبلغة أخرى رجعوا من حجهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، من حيث الطهر والعفاف، وتلك هي التزكية المقصودة من العبادة.