في هذه الأيام المباركة، وصل أغلب الحجاج من مختلف أنحاء العالم لأداء شعائر الحج، واستعدّ كل مسلم لم تمكّنه الظروف من الحج، لمشاركة الحجاج فرحتهم في يوم العيد، بل حتى في صيام يوم عرفة. دروس وعبر كثيرة يقف الحجاج على مواقع أحداثها، ويستفيدون من استذكار جوانبها التاريخية والعقائدية المختلفة، فالوقوف بعرفة في زيّ موحد، ونداء موحد، وقلوب توحّدت في عبادة الله وطاعته، كلها رموز للوحدة التي أمر الله تعالى بها في أكثر من موقف، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله حينما توحّدت على الحق لا الباطل. ويقدّم الوقوف بعرفة درساً في توحّد النوايا لإعمار الأرض حتى لو كانت صخرية جامدة، ولنا في دولة الإمارات العربية المتحدة التي تحوّلت بالتوحّد والتكاتف وصفاء النوايا، من صحراء جرداء وبحر متعب وبادية فقيرة، إلى رقم يشار إليه بالبنان في كل المحافل. أما السعي بين الصفا والمروة، والذي يصل حدّ الهرولة الخفيفة، فيرمز لأهمية حرص أفراد المجتمع على أرواح بعضهم بعضاً، وتفضيل الفرد للآخر حتى على نفسه، فالصدق الذي لا تشوبه نوايا الغدر، وخوف البعض على الآخر، كانت نتيجته عودة الحياة إلى الأرض، فالسيدة هاجر عندما كانت تهرول بقلق بين هاتين النقطتين، لم تقل نفسي نفسي وتهتم بعطشها، ولكنّ همها انحصر في عطش صغيرها، وهذا الهمّ الغيري الراقي، والخوف الصادق على الآخر هو ما فجّر الأرض بالماء الذي هو سرّ الحياة، وذلك في شكل بئر زمزم. إنها رسالة واضحة بأهمية الصدق وصفاء النفوس في تعمير الأوطان، وهي رسالة لحكام المسلمين للعمل على مصلحة شعوبهم ومجتمعاتهم، وحمايتها من كل مكروه أو متربّص. وتبقى للنحر قيمته الرمزية الكبيرة المتماهية مع كافة القيم العقائدية، فانصياع سيدنا إسماعيل لأبيه سيدنا إبراهيم، عليهما السلام، من أكبر وأبلغ الدلالات، خاصة وأن العلاقة الطبيعية بين الوالد والولد هي علاقة ولي الأمر برعيته، والتي يجب أن تطيع فيها الرعية الراعي دون نقاش، تلك الطاعة التي تقود لا إلى النجاة وحدها، ولكنها نجاة مصحوبة بالفدية، فتصبح الفرحة فرحتين، فقد أنقذ الله روحه وكافأه بأن فداه بذبح عظيم. وكل حركة وسكنة في هذا المؤتمر الإسلامي الكبير، من الممكن استخلاص عشرات العبرة منها، وإسقاطها على واقع الحياة في كل العصور. ومن الملاحظ أن حجاج بيت الله يرتدون زياً موحداً هو الأبيض، وهو اللون الذي رمز دائماً للصفاء والنقاء، وأنهم طوال رحلة الحج لا يحملون سلاحاً، وتبتعد بهم أعمال الحج المختلفة عن كل صور وأشكال العنف، وعن أي مظهر يرمز إليه، وهي رسالة واضحة التفسير، بيّنة الرموز والدلالات. المظهر الوحيد الذي يحمل صورة العنف هو عملية الرجم، والتي حدّدت المواطن التي يجب أن يستخدم فيها المسلمين العنف، فالرجم في الحج لا يتّخذ مظهر رجم حاج لحاج، ولكنه يد التوحّد الباطشة في مواجهة عدوّ مشترك، فكلّ الحجاج يرمون بيد واحدة، ونوايا موحدة، وأعماق صادقة، عدوّهم المشترك، فالمجتمعات الإسلامية لا تعادي بعضها، ولا يخون بعض أبنائها ثقتها ويضمرون لها الكثير ويسعون لتقويضها، ولم يشكك سيدنا إسماعيل عليه السلام ولو برهة في حلم أبيه، ولا تردد لحظة في الامتثال لأوامره له بالانصياع للموت. ما يجب أن نستلهمه من هذه الرحلة العظيمة، رحلة الحج التي يجب أن يستكشف فيها كل حاج خبايا نفسه وصواب وخطأ أفكاره، ومدى شرعية تعاطيه مع أمور الحياة المختلفة، هو أن السلم الذي رمز له زيّ الحاج الذي يلازمه في كامل رحلة الحج بلا انقطاع، وكأنه رسالة لكافة أرجاء المعمورة بلا تمييز، هو الوجه الحقيقي للإسلام، وأن الرّفث والفسوق والجدال تمّ منعها تماماً بين الحجاج العاديين، ناهيك أن تكون بين حاج وراع. فالجدال الذي اتخذته بعض التنظيمات التي ترفع الشعارات الإسلامية، وبذلك الشكل المغلوط، يمثّل وجهاً غير حقيقي للإسلام، وحتى التغيير بمفهومه الحالي الذي يسهم في الانفلاتات الأمنية، وزعزعة استقرار المجتمعات، وإحالة بعضها من بيوتها الآمنة إلى معسكرات النزوح، وغير ذلك من المظاهر الناتجة عن العنف، كلها لا تمثّل سوى تسويق مضاد للإسلام، يختلف كامل الاختلاف عن التسويق الحقيقي الراقي الذي نراه متمثّلاً في شعائر الحج. فالحج يذهب في تعبيره عن رأي الإسلام في العنف، إلى درجة تحريم الصيد، وهو عنف وضع له عقوباته الواضحة التي لم يترك فيها مجالاً للاجتهادات والتأويل والتحريف. وفي المواقع الحقيقية الواقعية يستلهم الحجاج عظمة التضحيات التي تمّ تقديمها في هذا المكان، وعظمة الجهد والتعب اللذين تمّ بهما تعمير هذه البقع منذ القدم، وأيضاً يستلهم من السير المتواترة كيف كان تعامل سكان هذا المكان مع بعضهم، وما هي أسرار نجاحهم؟ فالمجتمع الجاهلي الذي عاش على هذه الجغرافيا متناحراً، يكيد بعضه لبعض، تحوّل من ظلمة الجاهلية إلى نور الإسلام، ونجح في صناعة دولة مستقلة انتشر فكرها خارج جغرافيا نزولها ليعم العالم بالإقناع لا السيف، وبالسماحة وحسن الخلق قبل التنادي إلى (جهاد) ضد المجتمعات التي تنطق الشهادتين!