جاء اغتيال اللواء وسام الحسن، رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبناني، ليثير أفكاراً وتأملات واقعية عدّة. لكنْ أيضاً ليثير فرضيات تخيّلية وظيفتها الوحيدة أن تجعل النقاش أغنى وأشدّ خصوبة في احتمالاته. ومن هذا القبيل، لنفترض لوهلة أنّ بعضاً من اللبنانيين قرّروا إنشاء مقاومة مسلّحة في بلدهم يناصرون من خلالها الشعب السوري ونضاله ضدّ ما يسميه المعارضون السوريون احتلالاً أسدياً. هل يجد احتمال كهذا ما يكفي من مُسوّغات صلبة تسنده وتُديمه وتكون قابلة للدفاع عنها؟ أغلب الظنّ أنّ الجواب "نعم"، بل إن لم تكن "نعم" قاطعة. فالذين قد يقدمون على خطوة نوعية كهذه سوف يجدون في جعبتهم الكثير الذي يقولونه أو يحوّلونه إلى دعوة وعقيدة، ومن ذلك مثلاً لا حصراً: - إنّ تاريخاً مشتركاً مديداً يجمع بين لبنان وسوريا وشعبيهما، وهو يمتد على عشرات السنين، إن لم يكن على مئاتها. وهذا معطوفاً على المصالح الاقتصادية المشتركة واللغة المشتركة والمصاهرات والصداقات الكثيرة، يبرّر للبنانيين التدخّل دعماً لـ"الإخوة" السوريين في محنتهم. - باستثناء جزء صغير من الحدود اللبنانية هو ذاك الذي يفصلها عن الدولة العبرية، فإنّ باقي الحدود على امتداد كلّ من الشمال والشرق تجمع اللبنانيين بالسوريين. وهذا إنّما يعني أنّ ترك الأمور في دمشق على حالها الراهنة، والبالغة البشاعة، سوف ينعكس أسوأ الانعكاسات على لبنان نفسه أمناً واقتصاداً وسياسةً. - إنّ الشعب السوري يتعرض اليوم لحملة دموية شرسة قتلاً وقصفاً بالطيران وتهجيراً وتدميراً واعتقالاً وخطفاً وإخفاء. ووضع رهيب كهذا لا يمكن السكوت عنه ولا الامتناع عن التدخّل فيه أو الحياد حياله، أكان ذلك لسبب أخلاقي بحت أو نتيجة للروابط والعواطف المشتركة التي تجمع سكّان لبنان بسكّان سوريا. - إنّ مواطنين لبنانيين يقيمون في المناطق الحدودية يتعرّضون اليوم لعمليات عسكرية يشنّها جيش النظام السوري على نحو متواصل، وينجم عنها سقوط قتلى وجرحى ومعوّقين لبنانيين لا يكفّون عن التكاثر. وذلك فضلاً عن تهديم البيوت والعبث بالممتلكات، بل فضلاً عمّا يشكّله ذلك من تمادٍ فعلي في تجاوز السيادة اللبنانية وامتهانها على يد الجيش السوري. - إنّ لبنانيين لا يُحصى لهم عدد عرّضهم النظام السوري للموت والتهلكة، أكان ذلك في مدينة طرابلس أو في البقاع أو في غيرهما من المناطق. كذلك فالنظام نفسه متّهم باغتيال عدد من السياسيين والصحفيين والضبّاط اللبنانيين ليس الرئيس رفيق الحريري أوّلهم وقد لا يكون العميد وسام الحسن آخرهم. وفي هذا المعنى فإنّ التدخّل في الشأن السوري يبرّره التدخل السوري، في أسوأ معانيه، في الشأن اللبناني. - فوق هذا، وفّر القبض على الوزير السابق ميشال سماحة المحمّل بالمتفجّرات المهربة، وضلوع النظام السوري عبر بعض رموزه البارزين في عملية "سماحة" الإجرامية، دليلاً لا يخطىء على نوايا الحكم الأسدي حيال اللبنانيين. فلو كُتب لمخطّط سماحة أن يتحقّق لانفجرت في وجوههم كارثة إنسانية وسياسية وطائفية يصعب تقدير حجمها وأكلافها. لكن الحجج الداعمة لإنشاء مقاومة لبنانية تقاتل ضدّ النظام في دمشق يمكن أن تذهب أبعد من ذلك: فالأوضاع الراهنة في سوريا يتأدّى عنها تهجير للسكان يطرح على لبنان واللبنانيين أعباء ومهمّات تتعدّى قدراتهم المتواضعة، وقد يتطوّر ذلك إلى مشكلة عويصة تتصل بالتوازنات اللبنانية الحسّاسة والمعروفة، ما يلحّ على ضرورة التدخّل للمساهمة في إنهاء هذا الوضع الشاذّ للبلد الجار. ونعرف أنّ حروباً كثيرة في العالم إنّما اندلعت في مراحل مختلفة لأسباب من هذا القبيل. - ولمّا كان جزء عريض من اللبنانيين تربطه وحدة المذهب الديني مع غالبية الشعب السوري، جاز التدخّل لدعم هذه الأغلبية المضطهَدة على يد حكم طائفي وأقله لم يعد وصفه هذا كشفاً لسرّ. - ثمّ إن السوريين يخضعون فعلاً لاحتلال مستمرّ منذ 1970، وما السلوك الهمجي في عنفه الذي يمارسه النظام حيال الشعب والبلد سوى تعبير عن خارجية ذاك النظام وعن احتلاليته. وهذا، تعريفاً، ممّا يحضّ على المقاومة ويستدعيها. - ولمّا كان النظام في دمشق يلقى دعماً صريحاً وقوياً من أطراف إقليميين ودوليين كإيران وروسيا (والصين!)، فمن باب أولى أن تلقى الثورة السورية دعماً صريحاً وقوياً من "إخوة" لبنانيين ظلّوا حتى 1943 يشكّلون مع السوريين شعباً واحداً وبلداً واحداً. قصارى القول إنّ فكرة كهذه ليست ضعيفة الإسناد، وهي تبقى في أوهى حالاتها أقوى من الحجج التي تقدّم في تبرير المقاومة التي ترتبط بـ"حزب الله"، مع هذا فهي، بالتأكيد، ليست فكرة للتحقيق، وهي لن تكون صائبة في حال تحقيقها لأنّه يُفترض باللبنانيين أن يكونوا متعاقدين على العيش معاً، وأن يتوصّلو إلى تسويات في أمورهم الكبرى يناط بالدولة تفعيلها والتعبير عنها. وغني عن القول إنّ اتّفاقاً كهذا يحصر بالدولة وحدها حقّ امتلاك أدوات العنف واستخدامها، كما يحصر بها وحدها قراري الحرب والسلام. فإذا قرّرت كلّ واحدة من الفئات اللبنانية أن تتمسّك بما تعتبره مسوّغات مقنعة لإعلان حرب وإنشاء مقاومة، دخلنا في غابة كلُّ طرف فيها يقاتل الطرف الآخر. وفي مقابل الضاحية الجنوبيّة لبيروت تكون طرابلس، وفي مقابل هذا الزعيم يكون ذاك الزعيم، وهكذا دواليك. والحال أنّ الأمر ليس قصوراً في الحجج والأفكار، ولا في المعطيات والوقائع: ففي وسع الأرمن اللبنانيين أو الأكراد اللبنانيين مثلاً أن ينشئوا مقاومات ضدّ الأتراك مثلاً، وأن يطوّروا حججاً وجيهة تبرّر لهم وللعالم ذلك، ولربّما أتيح لهم بناء طائرة من دون طيّار تستطلع الجوّ والبرّ التركيين!. وهذا ما لا يريد "حزب الله" اللبناني أن يسمعه مكرّراً، المرّة بعد المرّة، الحجج السقيمة إياها عن "ضرورة" تمسّكه بسلاحه ومقاومته. إلاّ أنّ هذه الطريق، فضلاً عن تخريبها كلّ أمن واستقرار ممكن، قد تفتح الباب واسعاً أمام خراب عميم.