إلى الأمس القريب كان الاتحاد الأوروبي يسير بخطى بدت لكافة مناطق ودول العالم الأخرى بأنها منتظمة ومليئة ربما بالثقة المفرطة بالنفس، ومفعمة بالحيوية وقوية. لكن الاتحاد الأوروبي ومعه منطقة "اليورو"، يبدو اليوم وهو يمر بأزمة حقيقية بسبب المصاعب التي تمر بها العديد من الدول الأعضاء فيه، خاصة دول جنوب أوروبا وشرقها. وهذه المصاعب تعود إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، والانخفاض الحاد في قيمة العملة الأوروبية الموحدة "اليورو". وبالنسبة للمراقب الخارجي يتم النظر إلى هذه الأزمة بأنها عارضة، ومؤقتة، لكن الحقيقة ليست كذلك، فنوع الاتحاد القائم بين دول أوروبا والتنوع الذي طرأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الشرقية تستدعي من المرء النظر إلى المصاعب التي يمر بها الاتحاد الأوروبي بطريقة مختلفة أعمق قوامها العودة إلى جذور المشاكل التي تواجدت، كاكتمال عقد الاتحاد بصورته الحالية. وعندما يتم النظر إلى الاتحاد الأوروبي بصورته البراقة التي أقنعت العالم بأن ما قام من تجمع بين دول أوروبا مثال يمكن الاحتذاء به، يكون أصحاب تلك النظرة قد تجاوزوا العديد من المشاكل التي كانت قائمة منذ البداية. ولنأخذ بعض الأمثلة فقط: ابتعاد دولة أوروبية مهمة هي بريطانيا عن منطقة "اليورو" بسبب عدم الاقتناع بنجاح التجربة؛ تصويت البريطانيين المنخفض على الانضمام إلى البرلمان الأوروبي، حيث بلغت نسبة التصويت في صالح الانضمام 24 بالمائة فقط؛ قيام حزب "المحافظين" البريطاني بانتخاب رئيس له ينادي صراحة برغبته في انسحاب بلاده من الاتحاد الأوروبي، معارضة الدانمارك المبدئية لمعاهدة ماستريخت ولليورو؛ رفض إيرلندا معاهدة نيس؛ رفض سويسرا المفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ تصويت الفرنسيين بنسبة مئوية بلغت 49 بالمائة رافضة اتفاقية ماستريخت، إلى غير ذلك من مشاعر المعارضة والرفض. وقبل توسعة الاتحاد الأوروبي شرقاً برزت توترات شديدة بين أعضاء الاتحاد القدامى حول تلك العملية، فالأعضاء الأقوياء الأغنياء في الاتحاد، خاصة ألمانيا وفرنسا لم يكونوا راغبين في تحمل تكلفة تحديث دول أوروبا الشرقية، بما نسبته 38 بالمائة من المواطنين الألمان و34 بالمائة من المواطنين الفرنسيين فقط كانوا راغبين في توسيع العضوية شرقاً. وفي نفس الوقت، فإن دول كإسبانيا والبرتغال وأيرلندا بقيت غير راغبة في الاشتراك مع دول فقيرة أخرى تنافسها على الموارد الأساسية التي يمكن الحصول عليها من تمويلات وهبات الاتحاد الأوروبي. وبالفعل فإن إسبانيا استمرت بنجاح في فرض حقها في النقض (الفيتو) ضد التوسعة إلى عام 2007، هذا بالإضافة إلى معارضة معظم شعوب دول الاتحاد التقليدية للسياسات الزراعية الجديدة التي ترتبت على ضم دول أوروبا الشرقية. والآن ومع تفاقم أزمة اليورو وأزمات الديون في اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، فإن الاتحاد الأوروبي أصبح بعيداً من أن يصبح أكثر قوة وثقة بالنفس، ويبدو الآن أكثر ضعفاً وتفككاً. وتظهر أصوات لمفكرين وكتاب في بعض الدول تتساءل حول ما الذي يمكن أن يحدث لو أن دولة عضو من دول الاتحاد أرادت الانفصال عنه، كما يحدث الآن بالنسبة لليونان، أو أن أعضاء آخرين واجهوا حركات انفصالية داخلية كما يحدث في إقليم "الباسك" وكتالونيا الإسبانيين، أو إيرلندا الشمالية أو أسكتلندا بالنسبة لبريطانيا، وما هي تداعيات مثل تلك الحركات على مستقبل الاتحاد، وكيف سيتصرف حيالها؟ مثل تلك الحالات ستشكل هموماً معقدة جداً ومكلفة. هذه المعطيات التي تواجه الاتحاد الأوروبي تدل على أنها عوامل تضعف هذا الاتحاد الذي عملت أوروبا بروية وأناة على تشكيله، واستغرقها ذلك وقتاً طويلاً وهي تعمل لقيامه منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، وتقوم ببناء مؤسسات ببطء شديد. لكن اتضح في نهاية المطاف بأنه نمط من الاتحادية ضعيف، ومستقبله لا يبشر بآمال عريضة.