تهويد القدس، جوهر المشروع الصهيوني، الديني والسياسي، لا تتراجع دولة إسرائيل الصهيونية عن تحقيقه مهما تكن الأسباب والظروف. وقد انتهجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي سياسات وإجراءات عنصرية ممنهجة ضد فلسطينيي القدس على مدى العقود الأربعة الماضية من احتلال القدس الشرقية، بهدف تقليص عدد السكان الفلسطينيين وتهجيرهم خارج ديارهم. فهذه السلطات تسعى، من جهة، إلى تكثيف الاستعمار (الاستيطان) وتستهدف، من جهة ثانية، تهجير السكان المقدسيين من خلال إيجاد ظروف معيشية قاسية. ومؤخراً، كشفت وزارة الداخلية الإسرائيلية أن عدد المستعمرين (المستوطنين) اليهود في الضفة الغربية والقدس المحتلتين تجاوز 650 ألفاً، حوالي 350 ألف مستوطن في الضفة الغربية، و300 ألف إضافيين في مستعمرات (مستوطنات) القدس الشرقية. وقارنت الوزارة بين الأرقام الراهنة لأعداد المستعمرين في الضفة والقدس، بأعدادهم عند توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993، مشيرةً إلى أن عدد هؤلاء في الضفة والقدس لم يتجاوز آنذاك 110 آلاف مستوطن. وحديثاً، كشف تقرير هام أعدته ونشرته "جمعية حقوق الإنسان" الإسرائيلية، عن تمييز حكومي رسمي ضد المقدسيين في العديد من المجالات، من عمل وتعليم وصحة وخدمات اجتماعية وغيرها، رغم أن القانون الإسرائيلي اعتبر، بعد قانون "توحيد القدس" عام 1967، أن "المقدسيين مواطنون إسرائيليون". وقالت "الجمعية" في تقرير لها إن "السكان الفلسطينيين في القدس الذين يشكلون 38 في المئة من عدد سكانها (الإحصاء يعتبر القدس الشرقية كذلك جزءاً من إسرائيل) وصلوا إلى أقصى نقطة حضيض منذ احتلال المدينة، لجهة معطيات الفقر والبطالة". وجاء في إحصاء الجمعية المذكورة أنه مع انتهاء سنة 2011، تبين أن 84 في المئة من الأطفال الفلسطينيين من سكان القدس يعيشون "تحت خط الفقر"، وأن 78 في المئة من مجمل العائلات الفلسطينية في المدينة تعيش أيضاً تحت هذا الخط، بينما كانت النسبة في عام 2006 نحو 64 في المئة من مجمل عدد السكان و73 في المئة في أوساط الأطفال. ويضيف التقرير أن نسبة البطالة بين الرجال الفلسطينيين في المدينة وصلت إلى 40 في المئة، وفي أوساط النساء 85 في المئة. واتساع الفقر في أوساط المقدسيين يعود أساساً إلى إهمال سلطات الاحتلال لهم، فضلاً عن جدار الفصل العنصري الذي بتر القدس عن قرى الضفة، حيث جاء في التقرير: "تسببت سياسة التشديد على الحواجز وفي تصاريح الدخول من القرى إلى القدس، في إضعاف القدس الشرقية بعد أن كانت مركزاً رئيساً يزوّد الخدمات المتنوعة لأهالي القرى المجاورة لها". وعلى سبيل المثال، كانت المدينة المحتلة مركزاً للتسوق لعشرات آلاف المصلين الذين أمّوا المسجد الأقصى أيام الجمع، لكن فرض قيود على جموع المصلين أضعف الحركة التجارية في المدينة المحتلة. كما أشار التقرير إلى الإهمال الرسمي من جانب الحكومة والبلدية الإسرائيلية في القدس، لمجال التعليم في المدينة، مثل النقص الشديد في غرف التدريس، والكثافة في الصفوف، وشح الموازنات للتعليم... "مما تسبب في أن لا ينهي نحو 40 في المئة من الطلاب الفلسطينيين دراستهم الثانوية، وفقط نسبة قليلة من الذين ينهون الدراسة يتقدمون لامتحانات التوجيهي، ما يقلل بالتالي عدد الملتحقين بالجامعات". ويختم التقرير بالمقارنة بين الوضع المأساوي في القدس الشرقية والوضع "الطبيعي" في القدس الغربية في مجال الشؤون الاجتماعية، ويشير إلى أنه بينما توجد في القدس الشرقية ثلاثة مكاتب فقط للشؤون الاجتماعية، فإن عددها في الغربية هو 18 مكتباً. وبحسب الإحصاء الفلسطيني، بلغ معدل البطالة عام 2011 في محافظة القدس بين الأفراد فوق سن الخامسة عشرة 13.2 في المئة، وكان أعلى معدل للبطالة بين الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و19 سنة، حيث بلغت النسبة 35.3 في المئة. أما على صعيد معدل البطالة حسب عدد السنوات الدراسية، فكان أعلى معدل للبطالة بين الأفراد الذين أنهوا 7 إلى 9 سنوات دراسية، حيث بلغ بين أفراد تلك الفئة 16.5 في المئة. وفي تقرير صدر حديثاً عن منظمة "يش دين" الحقوقية الإسرائيلية التي تعمل من أجل حقوق الإنسان، جاء فيه: "يقطن في المدينة نوعان من السكان يتمتعان بحقوق مختلفة تماماً". وكتبت المحامية "طاليا ساسون" في تقرير المنظمة أن "تعاطي إسرائيل مع القدس الشرقية يتسم بالازدواجية. فمن النواحي القانونية والسياسية والعملية، تميز بكل وضوح بين المنطقة الجغرافية للقدس الشرقية التي فرضت عليها سيادتها، وبين السكان الفلسطينيين في هذه المنطقة المحرومين من حقوق مدنية كثيرة". أما منظمة "عير عميم" الإسرائيلية، وهي منظمة غير حكومية ترصد ما يحدث في مدينة القدس، فأكدت في تقرير لها: "قانونياً وسياسياً وعملياً، إسرائيل تمارس سياسة التمييز وبوضوح بين أراضى القدس الشرقية والتي تسيطر عليها بحكم الأمر الواقع، وتعمل على حرمان الفلسطينيين من حق التصويت لأسباب عرقية وقومية، الأمر الذي يقوض ادعاء إسرائيل بالسيادة في القدس الشرقية". وحيث لا تدخر سلطات الاحتلال أية وسيلة لمواصلة حربها بحق المقدسيين، تأتي ضريبة "الأرنونا" التي تفرض سنوياً على المقدسيين والمفروض أنها مقابل الخدمات المقدمة لهم! وهي ليست ثابتة بل متحركة وتزداد عاماً بعد عام. وبالمقابل، أعلنت ستة مستشفيات فلسطينية في القدس الشرقية مواجهتها لوضع مأساوي بسبب الديون، وعدم قدرتها على الاستمرار، مع أنها تعتبر مؤسسات رئيسية للرعاية المتخصصة في إطار النظام الصحي الفلسطيني وتخدم المرضى الذين هم بحاجة إلى خدمات وإجراءات ليست متوافرة في الضفة وغزة ويتم تحويلهم إليها من قبل وزارة الصحة الفلسطينية. والحال كذلك، يأتي السؤال المفجع: كيف يصرف الملياردير اليهودي "ارفين مسكوفيتش" أموالاً لتهويد القدس بما يفوق أضعاف ما تقدمه كل الدول العربية والإسلامية؟! ثم ماذا عن غالبية المقتدرين والمتنفذين الفلسطينيين الشعبيين والرسميين؟ وكما قال الكاتب الصحفي ماهر أبو طير: "أثرياء الفلسطينيين عددهم بالآلاف، ونتحدث هنا عن المليونيرات الذين لو تبرع كل واحد بخمسة آلاف دولار، وأرسلها مع أي مسافر إلى القدس، حتى لا يتذرعوا بمخاوفهم من تهمة تمويل الإرهاب عبر التحويلات، لما وصلت المستشفيات في القدس إلى تلك الحالة المزرية. فوقهم وبعدهم يأتي أثرياء العرب والمسلمين الذين ينفقون على ما هو أقل أهمية أضعاف ما تحتاجه مستشفيات القدس التي تداوي المرضى من المدينة وقراها، لكنهم مثل سابقيهم، ينتظرون صلاح الدين ليخرج أولاً". المخاطر التي تواجه القدس تتصاعد يومياً، وزهرة المدائن تصرخ عالياً، فهل من مجيب؟!