من مباراة إلى مباراة يمكن أن يغيرّ المرء رأيه في مستوى أداء الفريق، وأن يشير بأصابع الاتهام للمدرب في شوط، ويعود في الشوط الثاني ليصفق له. بل لا أحد سيرفع حواجب الدهشة إن شجع اليوم نادياً، وغداً رفع علم نادٍ آخر. لكن الذي يصعب فهمه هو أن يعتبر أحدهم كرة القدم أفضل لعبة شعبية في العالم، ثم يقرر فجأة أنها لعبة استعمارية هدفها إلهاء الشعوب الفقيرة بتعليق آمالها بكرة تتقاذفها مجموعة من اللاعبين بدلاً من الالتفات إلى أوضاعها المأساوية والسعي نحو التحرر. ثم يأتي في يوم ثالث ويكيل المديح للعبة كرة القدم باعتبارها ميداناً للتنافس الشريف وللتعارف بين الشعوب ولإصلاح ما تفسده السياسة. تغيير الرأي في مستوى الأداء أو حتى تشجيع نادٍ آخر، يُعد انتقالاً من ساحل إلى ساحل في بحر حب كرة القدم، أما الخروج إلى الصحراء، فلا يمكن أن يحدث بين ليلة وضحاها، وإن حدث، فليس من المعقول أن يخرج ويعود وهو لا يزال مبللاً بماء البحر، ويظلّ متنقلاً في مواقفه وقناعاته إلى ما لا نهاية، في القضية الواحدة. منذ أن أضرم البوعزيزي النار في جسده، وإلى يومنا هذا، يستمر بعضهم في عدم الاعتراف بـ"الربيع العربي" وتحقير شأنه بقوله: "ما يسمى الربيع العربي"، فهو لا يعتبره ربيعاً، وإنما شيئاً أشبه بالمؤامرة، وبقي فريق آخر متماهياً مع "الربيع" ويعتبره من أفضل ما أنتجته الشعوب العربية منذ قرون، وهناك فريق ثالث لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، لديه تحفظات على "الربيع" وإن كان مؤيداً له، وهناك فريق رابع وخامس... إلخ. ومن الطبيعي أن ينحاز أحدهم لفريق على حساب فريق آخر بحسب المستجدات، مع "الربيع" ثم حين رأى النتائج صار ضده، أو العكس، لكن غير المفهوم هو الانتقال والعودة ثم الانتقال من جديد، من دون الشعور بأي حرج. ولا تقل آثار فضيحة تغيير المرء قناعاته سريعاً إلا بمحدودية المحيط الذي يتحرك فيه ويناقش ويتفاعل، لكن الفضيحة تصبح مجلجلة حين يكون هذا المرء كاتباً أو محلّلاً له مقالات منشورة أو لقطات مبثوثة، وهو مثل أن يغيّر شخص ملابسه أمام عدد محدود من الناس، معظمهم من أهله وأصدقائه، أو يتعرى ويغيّر ويرتدي ثوباً آخر أمام أعين الآلاف، و"العيب في الرجل المذكورِ مذكورُ، والعيب في الخامل المستورِ مستورُ". ويعترف أنيس منصور رحمه الله بأنه كان يتناول في الكثير من مقالاته المعنى نفسه، لكن بصورة أخرى، "فكأنني ألف وأدور حول المعنى لأراه وأوضحّه... أو لأجسّده لنفسي أحسن... ثم أضيف إليه من إحساس أو من تجارب الآخرين". والاعتراف هنا اعتراف الكاتب بالثقة بما توصل إليه من اجتهادات، وبالانطلاق وفق مبادئ وقناعات معينة، بغض النظر عن ماهيتها، ثم ينقل أنيس منصور عن صديقه الروائي ألبرتو مورافيا قوله: "إن الفنان الحقيقي هو الذي يكرّر نفسه، لأن لديه معنى واحداً، أو فلسفة واحدة يعبّر عنها في ظروف مختلفة، والفنان مثل البلبل: له أنشودة واحدة".