تتعارف الشعوب فيما بينها، أو مع بلدان الجوار ، على مناسبات الحشد الاجتماعي مفعوماً بمشاعر القداسة، الدينية أو التاريخية وحتى الاقتصادية، لتنشيط العلاقات أو المصالح، أو هما معاً . ويلفت النظر تركز هذه المناسبات في مواقع يتفق عليها عرفياً، وكثيراً ما يبدو ذلك أنه اختيار ديني أو مقدس ، لكن كثيراً ما يثبت أيضاً أن الموقع جاء بعد تطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية معروفة للجميع، وإن لم يعلن إلا عن جانبه المقدس. وبالنسبة للعرب والمسلمين عموماً نعرف الكثير عن تاريخ التواصل والاتفاق على "هذه الكعبة "في مكة، ككعبة مركزية، بعد تطورات من صراعات قبلية واجتماعية بالجزيرة العربية قبل أن توحدهم الرسالة المحمدية على هذا الخيار الواحد، الذى قدسته الرسالة الإسلامية، لتحج إليه ملايين المسلمين كل عام، بل وتلتقي عندها أنظارهم كل صلاة . هكذا الحال بالطبع، بتنوع أكثر عند المسيحيين وفق كنائسهم المختلفة، وهنا يمكن ملاحظة أن سوسيولوجيا الحج الإسلامي أكثر "اجتماعية"، بينما الحج المسيحي يحاصر الظاهرة في الشعور الديني فقط، لظروف اقصاء الدين المتزايد في الثقافة الغربية الحديثة عن الحياة العامة، أو ما نسميه سياسياً بالمجال العام. أما على المستوى اليهودي، فقد فوجئت في شبابي وأنا أبحث مشكلة أصل مشروع "الدولة اليهودية "، أن "هرتزل " قد بحث عن موضع لها في أوغندا أو غينيا أو ليبيا! لأسأل نفسي، أليس "جبل صهيون" هو "المقدس" ، فأين هذه "الدولة" من الدين إذن، وأين قداسة "أورشليم "في الفكر السياسي؟ ومن خلال اهتمامي بـ"الاجتماع السياسي" الأفريقي وجدت أن أفريقيا بدورها، وفى معظم أنحائها تفصل بين "الديني" و"السياسي" منذ نشوء مشروع "الدولة "، بل وأن أفريقيا كثيراً ما تفصل –في هذا المجال وغيره بين "التاريخي" و"السياسي "، دون إرهاق شعوبها بعبء هذا التاريخ، وإن كانت بلدان مثل مصر والمغرب في الشمال الأفريقي تواصل متاعب عبء التاريخ هذا. فيما يسمونه بالتراث، بل والأمجاد القديمة! أشعر هذه الأيام بعبء الجدل الدائر في ساحاتنا العربية وكثافة الخلط الهائل بين "الديني" و "السياسي " ... ونكاد أن ننفرد اليوم بذلك دوناً عن شعوب الأرض جميعاً ... والمفاجأة في هذا التناقض أن الواقع يقدم هذا الانفصال الظاهر في أكبر ظاهرة إسلامية وهي "الحج" ! فها هي الملايين في طريقها لمدينة صغيرة في بلد صحراوي وليس سياحي هي مكة ، وبمشاعر دينية مفعمة بالروحانية دون أن تدخل بذلك في أي جدل أو خلط مع " المصير السياسي " لهذه الجماهير المرتحلة إلى رحاب الله. ولأنه ليس في نيتي الدخول في أي جدل في هذا المجال، إلا كشف المستور عند عبور البحور "لننطلق إلى المجال العام"، دون كل هذه المعوقات للحركات الشعبية ، فإنني فقط أعرف أن جماهيرنا، وهي تنطلق بالملايين في موسم الحج إنما تؤكد معرفتها بالمكشوف من أسرار الدين، كما تعزل جانباً المعروف من هموم الدنيا والسياسة أيضاً. وبحكم اهتماماتي الخاصة رحت أتجول في أفريقيا في عجالة أختبر حالة التكييف الأفريقي لهذه الحالة في الفصل بين "المقدس " و"السياسي" في مدنهم المقدسة. وجدت في أقصى غرب القارة مدينة "طوبى" ... ومدينة "فاتيك"... وكلاهما في السنغال. بعيدتين عن داكار وعن المحيط الأطلنطي نفسه. وإلى "طوبى" يحج أكثر من مليوني مسلم سنغالي من عشرة بلدان على الأقل في غرب أفريقيا، في موسم الحصاد الرئيسي للفول السوداني أو الأرز ( مثل طنطا في دلتا مصر مع السيد البدوي وموسم القطن)، وهناك يستمتع أتباع "الشيخ أحمدو بمبا مباكي" بتقديم الولاء للمارابو – قادة المريدية الصوفية، كما يقدمون لهم النسب المقررة من ثرواتهم، ويبنون لهم أكبر المساجد في القارة، ويرفعون أعلى المآذن فيها وأشهرها " لامب فال" أي منارة الشيخ فال".... وتنافس " طوبى" وبالقرب منها ، مدينة "فاتيك"، يحج إليها الآلاف أيضاً من أنحاء السنغال وخاصة من أبناء "السيرير" ذوى الحضارة التاريخية التي لم تتقبل انتشار الإسلام بسهولة، ولذا فالحج إلى "فاتيك" من ذلك النوع "التاريخي" التقليدي أكثر منه دينياً، ولذا يعنون بالاطمئنان على "الشجرة المقدسة "في نديب جاب"، وإقامة طقس "الخوي" مع كهنته المحددين، نقول ذلك والجميع هنا "مسلمون" لا يقومون بأي خلط في حياتهم بين المجال العام ومجال معتقداتهم واحتفالهم السنوي بها. ولا ينافس "طوبى" السنغالية خاصة إلا جزيرة "إيفي" النيجيرية ، فهي مدينة قدس الأقداس "اليوروبية"، التي شهدت قيام وانهيار ممالك عظيمة باسم "أويو" و"بنين" وغيرهما منذ آلاف السنين ، ولكنها تحتفظ بمعنى "الانتشار " إشارة إلى النفوذ المعنوي و"الروحي"، لأن صلب عقيدة "اليوروبا" يقوم على النفوذ المحلي والرسالة الإنسانية العامة في نفس الوقت. و"إيفي" الآن من أكثر المراكز الجامعية، وتفاعل الفكر السياسي، ونموذج "الجماعة " المركزية مع "الأوبا"والشجرة المقدسة، والديمقراطية في نفس الوقت احتفالات "إيتابا". نقول إن الشعوب الكبيرة تعرف طريقها دائماً إلى أنماط من التوحد مع صياغتها الخاصة للمقدس، أو من حوله بقدر ما تعرف طريق التفاعل السياسي الاجتماعي على أساس من قواعد عصرها، وتاريخ الكعبة والحج نفسه يفرض هذا الاستنتاج كما يفرضه تاريخ "طوبى" و"فاتيك". وأشعر بذلك كثيراً عندما أقرأ في تاريخ "الزولو"، الذين حكم قائدهم "الشاكا" امبراطورية عريقة وواسعة باسمهم في فترة، ثم أدركوا نهاية ذلك بعملية بناء أهداف جديدة لدولة حديثة في جنوب أفريقيا، فلم يؤيدوا أية محاولة عنصرية لتقسيم البلاد، ولم تؤد منافسة قادتهم لتدمير القيادة العصرية لحزب المؤتمر، وسقط تنظيم "إنكاثا" الثقافي التقليدي العرقي، لينتصر الزولو لممثلهم "السياسي" أخيراً ممثلاً في"جاكوب زوما"... ولم يعرف الكثيرون أن للزولو مقدسات ذات بأس شديد في وادي "ماخوسيني" شرقي البلاد، وفي مقدمتها ضريح "الشاكا" القديم "جاما" الذي يحمل معنى ذا دلالة لعصور نتهمها بالتخلف، لأنه يعني "الوحدة والقوة"، وهو مزار "الزولو" الدائم ومركز حجها، بينما نحن لا نتحدث إلا عن "رقصات" الزولو" وزوجات رئيسها المرح!....تذكرت هذه التفاعلات السياسية الاجتماعية، وأنا أقرأ الآن كيف أدى الخلط بين الديني والسياسي مثلاً إلى قيام فريق ديني في مالي باسم تسييس الدين بل والحركة الصوفية بتدمير صرح ديني وثقافي شهير مثل "تمبوكتو" التي بنوها بأنفسهم منذ أكثر من خمسة قرون، حتى لو كانوا الطوارق الذين كانوا مرابطين عندئذ، لتصبح الآن أمام الصراع الإسلامي / الحداثي الغربي مرة أخرى، ليس في مالي وحدها بل في نيجيريا وغيرها... أظن أن المسلمين والأوروبيين يبالغون في اعتبار المواجهة العالمية محصورة صراعاً وحلولاً بين " اليوروفوبيا " عند الإسلاميين، "والاسلاموفوبيا " عند الغربيين ، وهو ما يسميه بعض المفكرين الآن "التمركز حول الذات" و"التمركز المضاد". بينما في أفريقيا "غير العربية" يحاولون التخلص من هذه المركزيات، بمراكز عقيدية واجتماعية أخرى، لا يرون فيها الصراع الإسلامي المسيحي، أو اليهودي ، بقدر ما تبعث مجالات إنسانية أخرى للحياة ، ويصبح الحج في كل الأنحاء طريقاً للخلاص.