في ملتقى الاتحاد السنوي المتميز والمتنوع في انتماءاته وكفاءاته، عهد لي بأوراق ثلاث للتعقيب عليها، وهي "تحديات المرحلة الانتقالية" للأستاذ الدكتور المصري بهجت قرني صاحب التقارير العربية عن التنمية البشرية في العالم العربي، و"آفاق التغيير العربي" للدكتور عبد الحميد الأنصاري من قطر، ثم "مشاهد التغيير ومصائره في العالم العربي الجديد" للدكتور السيد ولد أباه من موريتانيا، وهي دراسات متزنة وتحاول إعطاء وصف للتحولات السياسية في بعض من الدول العربية وآفاق التغيير ومصائره. واتفقت تمام الاتفاق مع الأستاذ بهجت قرني عندما فرق بين مرحلة التحول الديمقراطي ومرحلة تدعيم الديمقراطية (ولو أنني أفضل هنا كلمة تثبيت الديمقراطية نقلاً عن الكلمة المعروفة عند منظري آليات الانتقال الديمقراطي، وكنت قد كتبت سابقاً أنه يجب التمييز في مسيرة الدول التي تعرف انهيار النظام السلطوي بين التحول الديمقراطي وتثبيت الديمقراطية، بمعنى أن التحول لوحده لا يكفي لتكريس الفكرة الديمقراطية على الواقع وفي عقل أولئك الذين كانوا ضحايا غيابها، ودفعت أوطانهم غالياً ثمن ذلك الغياب. فالديمقراطية تبقى في خانة الانتظار إذا لم يتغير المجال السياسي المغشوش من سلطة ودولة ومجتمع مدني وأحزاب سياسية إلى مجال سياسي حقيقي يتساوى فيه الجميع ويتبارز فيه الفاعلون على قواعد ديمقراطية تحكمهم بعد تدمير البنيات التقليدية من وعي ومؤسسات كانت تحجز التطور وتكبح سيرورة التاريخ. ولكنني لا أتفق معه عندما قال في ورقته أن هناك دولاً كالمغرب يمكن أن توضع في خانة الدول التي تراوح المكان وتحاول التكيف وأن "قوى 20 فبراير –حسب تعبيره- المعارضة تؤكد أن الشعب قاطع الاستفتاء وأن وزارة الداخلية غير دقيقة وأن التعديلات ماهي إلا التفاف حول عملية التحول الديمقراطي". فالشعب المغربي الذي كنت واحداً منهم يوم الاستفتاء ذهب عن بكرة أبيه إلى الاستفتاء على الدستور الجديد. الاستشهاد بهذه المقولة كالقول مثلاً إن للإمارات العربية المتحدة حدوداً جغرافية مع الولايات المتحدة الأميركية، فالاستفتاء كان حقيقة، والرجوع إلى قراءة الدستور المغربي ومقارنته بدستور 1996 سيحيلنا إلى الإصلاح الجذري الذي حققته التجربة المغربية... وكنت قد سميته في حينه بدستور الجيل الرابع في كتاب لي أصدرته مؤخراً مع فقيه القانون الدستوري أندري كابانيس.... كما استحسنت لو ترجم الأستاذ بهجت الكلمة المعروفة في أميركا اللاتينية Pactos بالميثاق التعاقدي بدلاً من التحالفات والتي هي جزء من الميثاق السياسي... ثم إن في قراءتنا لمقالتي السيد ولد أباه والسيد عبد الحميد الأنصاري جملة من الملاحظات الفكرية أود أن ألخصها في مسألتين اثنتين: - مسألة الدومينو: صحيح أنها لم تقع عند هجوم أميركا على العراق سنة 2003، أما بعد ثورة تونس فيصح لنا أن نتحدث عن تذبذبات وتأثيرات على العديد من الدول المجاورة حتى، وإن كانت الاختلافات النوعية موجودة ولسبب واحد هو أن الشعوب فهمت أن السلطة هي ملك جماعي عمومي، فانكسرت سورة ملك المستبدين..... - المسألة الثانية ،هو أنه عندما نتحدث عن الأحزاب الإسلامية دعونا نكون واقعيين، فإذا تتبع القارئ كتاباتي سيجدني ضد زج الدين في السياسة والسياسة في الدين، ولكن أريد أن أسأل سؤالاً وهو لم يتطرق إليه في المقالات الثلاثة مع أن معظم العناوين لها دلالات نقدية واستشرافية، لعلنا نحن المفكرين يجد الناس من ألسنتنا وأقلامنا نصائح تنفع العباد والبلدان، من أوصل تلكم الأحزاب الإسلامية إلى الحكم في مصر وتونس والمغرب ومن صوت عليها؟ هل الإسلاميون الذين هم في الحكم الاَن؟ أظن أنها الشعوب. إذا الشعوب في مثل هذه المعادلة غير ناضجة، لأنها صوتت على أحزاب في نظرنا غير صالحة للحكم، فلا الشعب غير ناضج ولا الأحزاب الإسلامية غير صالحة فيستحسن بنا أن نكبر أربعاً على البلدان. لا أظن أنه يجب قراءة الأشياء هكذا، صحيح أن هناك خللاً، والخلل أظنه في الشباب وفي الأحزاب السياسية غير الإسلامية. فهي فارغة مضموناً وعلى مستوى القواعد. والشباب لا يلجأون إلى الأحزاب السياسية لضعف المواطنة الحزبية في العالم العربي. هذا هو المشكل، وهذا هو الذي يجب تغييره. فالمجال السياسي سيبقى محدوداً ومريضاً لأنه حتى المعارضة السياسية لن تجد لنفسها مكاناً هنا لفقرها. فالمعارضة الحقيقية هي التي تصون الحياة السياسية من الاضطراب وتمدها بأسباب الاستقرار، والمعارضة كما هو معروف في الأدبيات قوة توازن ضرورية في المجال السياسي بوصفه مجالاً عمومياً وتقوم بالتمثيل السياسي للقوى الاجتماعية ومن خلاله تحقيق مشاركة هذه القوى المعارضة في الحياة السياسية بل في صنع القرار... فالشباب هم الذين باستطاعتهم أن يغيروا الأوضاع، فكما أنهم وبدون لافتات دينية وأبواق إسلامية خرجوا إلى الميادين والشوارع للقضاء على أنظمة سلطوية، عليهم القيام بما هو أسهل من ذلك ألا وهو ولوج الأحزاب السياسية. فأساس النظام الديمقراطي يقوم على قاعدة فتح المجال السياسي وجعله مجالاً لمنافسة مفتوحة بين كل القوى السياسية في المجتمع، وتنظيم اللعبة السياسية من أصعب قواعد الديمقراطية لأنها مسألة سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، إذ لا تكفي المبادئ العامة في الدساتير أو القوانين السامية للبلدان لإعمالها وإنجاحها إذ لا بد من ترسانات وذكاء قانوني لتكون شجرة الديمقراطية طيبة الثمار. الدول التي وقع فيها حراك اجتماعي كتونس ومصر، كان محركها الأصلي هم الشباب، والشباب فئة عريضة في المجتمع العربي عاشت سنوات من النسيان داخل المجال السياسي، وآن الأوان ليدخل إلى مجال التطبيق الفعلي أي داخل الأحزاب وفي مجال تسيير الشأن العام.