منعتني الظروف من حضور فعاليات "منتدى الاتحاد" السابع الذي عقد يوم السبت الماضي. كان حرصي على الحضور شديداً ليس فقط لأن المنتدى على قصر دورته أصبح واحداً من أهم المنتديات الفكرية في الوطن العربي وإن زاد عليها الانتظام في الانعقاد الدوري في الموعد نفسه من كل عام، أو لأن المشاركين فيه كالعادة نخبة متميزة من مفكري الوطن العربي ومثقفيه، وإنما لأن موضوع المنتدى لهذا العام كان بالغ الأهمية إذ جعل من "المشهد العربي ومسارات التحول" محوراً لأوراقه ومداولاته. عندما تصفحت برنامج عمل المنتدى حدثتني نفسي بأن أكتب في موضوعه ما كان ممكناً أن أدلي به من آراء وتحليلات إن أنا حضرت المنتدى، وتخيرت موضوع الجلسة الأولى للمنتدى عن "آفاق التغيير في الوطن العربي" (كان موضوع الجلسة الثانية هو: الاتحاد الخليجي" الواقع والطموح) على أساس أن الحيز المتاح لا يكفي لمناقشة القضيتين معاً. كان رأيي أن السؤال الأول الذي يجب أن يثار في هذا الصدد هو: هل تمتد ظاهرة "الربيع العربي" إلى كافة أرجاء الوطن العربي؟ وكان قد سبق لي أن قدمت إجابة أولية عن هذا السؤال في هذه الصفحة بعد أن تلاحقت ثورتا مصر وتونس بما يفتح الباب للتفكير في تطبيق نظرية "الدومينو"، بمعنى أن ما يحدث في وحدة داخل نظام لابد وأن يمتد بسرعة إلى باقي الوحدات، وذكرت في هذا السياق أن "نظرية الدومينو" لا تحدث بهذا الشمول في الواقع، ومن ثم فإن ظاهرة "الربيع العربي" لن تمتد إلى كافة أرجاء الوطن العربي في المدى القصير وربما أيضاً المتوسط، واستشهدت في هذا الصدد بما آل إليه الفكر الماركسي الذي تنبأ بانهيار النظم الرأسمالية في أوروبا دفعة واحدة، لكن هذا لم يحدث إلا في روسيا القيصرية. وعندما امتدت الشيوعية إلى شرق أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية تم هذا في ظل القوات السوفييتية وليس بفعل ثورات شعبية، كذلك استشهدت بتجربة عبد الناصر الذي قدم مشروعاً عربياً حظي بقبول ملفت من معظم النخب والجماهير العربية، ناهيك عن قيادته الكاريزمية، لكن مشروعه امتد إلى نطاق معين لم يتجاوزه فيما تمكن عدد غير قليل من نظم الحكم المناوئة للمشروع من الصمود والبقاء وربما الهجوم على عبد الناصر وتجربته عندما سمحت الظروف بذلك. ومن المؤكد أن هذا هو ما يحدث بالضبط في الساحة العربية سواءً بسبب تباين مراحل النمو أو مستويات الثراء والفقر، ومدى تماسك المجتمع، وأخيراً دور العوامل الخارجية. الأكثر من هذا أن ثمة أسباباً تطورت لاحقاً تعزز التحليل السابق، وفحوى هذه الأسباب أن ثورات "الربيع العربي" كلها كانت تتسم بالطابع الشعبي الواضح، لكنها في الوقت نفسه كانت بلا قيادة، لذلك آلت السيطرة فيها إلى القوى الأكثر تنظيماً، وهي قوى "الإسلام السياسي" خاصة مع تشرذم القوى المدنية، ومن ثم أصبحت هناك فجوة بين "سلطة الثورة" - إذا جاز التعبير- وجماهيرها. صحيح أن هذه القوى فازت بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات التشريعية، لكنها لم تحصل أبداً على الأغلبية المطلقة، كذلك كانت الانتخابات الرئاسية المصرية دالة أيضاً على أن تيار "الإسلام السياسي" لا يمثل الأغلبية، لأن المرشح المنافس لمرشح "الإخوان المسلمين" حصل على عدد يقل قليلاً عما حصل عليه مرشح الإخوان، بالإضافة إلى أن نصف عدد من لهم الحق في التصويت قد تقاعس عن المشاركة، ولا أحد يعرف بدقة توجهات هذا "النصف الغائب"، وإن كان أغلب الظن ليس مؤيداً "للإخوان المسلمين"، لأنه لو كان كذلك لما تقاعس عن المشاركة في ظل التنظيم المحكم "للجماعة"، ويوم يتغير سلوك هذا النصف نحو المشاركة لا أحد يمكنه أن يتنبأ بما سوف يسفر عن هذا من تغيير في تركيب النفوذ والقوة دون شك. كانت هذه الصورة واضحة في كل من تونس ومصر، وإن تميزت تونس "بالترويكا" التي منحت أهم منصب في النظام الجديد وهو رئاسة الوزارة "لحزب النهضة" الإسلامي، فيما ذهب منصبا رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية التأسيسية للدستور لأكبر قوتين أسفرت عنهما الانتخابات التشريعية بعد "حزب النهضة"، فيما يهيمن "الإخوان المسلمون" في مصر على مجلس الشورى ومن قبله مجلس الشعب المنحل، وفازوا بمنصب رئيس الجمهورية الذي جمع لاحقاً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولم تبق خارجة عن قبضتهم سوى السلطة القضائية التي تواجه محاولات متكررة لتقويضها أهمها المحاولة الفاشلة لعزل النائب العام، وتحجيم المحكمة الدستورية العليا في مشروع الدستور الجديد. وفي ليبيا وعلى الرغم من تفوق التحالف الليبرالي في انتخابات المجلس الوطني، فإن رئيس الوزراء الذي اختير من قبل المجلس لم يكن منتمياً للتحالف، وقيل إن هذا قد تم بضغوط وتكتيكات سياسية من قبل القوى "الإسلامية"، ناهيك عن استخدام سلاح الدين. أما اليمن فإن التوقعات تذهب إلى تكرار النموذجين المصري والتونسي في الانتخابات التشريعية القادمة على يد "حزب الإصلاح" (الترجمة اليمنية للإخوان المسلمين)، خاصة وأن اليمن عموماً بلد محافظ دينياً تروج فيه بسهولة مقولات الحزب الذي جاء تالياً لحزب "المؤتمر الشعبي العام" (حزب الرئيس السابق) في أول انتخابات تشريعية أجريت بعد الوحدة، ولم يستطع "حزب المؤتمر" آنذاك تحقيق الأغلبية المطلقة فدخل في ائتلاف حكومي مع "حزب الإصلاح". وبالنسبة لسوريا تؤكد التوقعات تكرار النموذج نفسه حال سقوط الرئيس الحالي: ثورة صنعها الكل لكنها تؤول لفصيل واحد هو "التيار الإسلامي". من ناحية أخرى فإن القوى "الإسلامية" قد تكون لها رؤية عامة، لكن التجربة في تونس ومصر أظهرت حتى الآن أن هذه الرؤية لم تترجم إلى خطط أو برامج عمل متكاملة، بل على العكس فإن القرارات تبدو كثيراً متخبطة سياسياً، تعكس أولاً رغبة في الاستئثار بالسلطة، وهو ما يشي باتجاه نحو إقامة نموذج للحكم لا يختلف جوهرياً عن النظم السابقة، مع فارق مهم وهو أن هذا النموذج مسلح "بشرعية دينية" تجعله أكثر استبداداً. يضاف إلى ذلك غياب أي مؤشر على الالتزام بأحد الأهداف الأساسية للثورات وهو العدالة الاجتماعية، والمشكلة أن شيئاً جوهرياً في هذا الصدد لم يحدث أغلب الظن، لأن كثيراً من قيادات النخب "الإسلامية" الجديدة الحاكمة ينتمي إلى عالم الأعمال الذي حققوا فيه نجاحاً باهراً بحيث وصلت ثرواتهم إلى المليارات، ولذلك فالمنطقي أن يفضلوا العمل "الخيري" وليس الإجراءات البنيوية في مجال العدالة الاجتماعية، وبينما كان رجال ثورة يوليو مثلاً ينتمون للطبقة المتوسطة ومن ثم لم يخشوا شيئاً من إصدار قانون الإصلاح الزراعي أو القوانين الاشتراكية لاحقاً فإن الانتماء الاجتماعي لرجال الحكم الجديد يمكن أن يقف حجر عثرة أمام اتخاذ إجراءات جذرية في مجال العدالة الاجتماعية. والخلاصة أنك لو كنت قد سألت مواطناً عادياً أثناء الثورة: هل تؤيد ما يحدث؟ لأجاب في الأغلب الأعم بالإيجاب. أما الآن فإن الصورة يمكن أن تختلف كثيراً، وقد يزيد البعض بالقول بأننا كنا في وضع أفضل قبل الثورة، وهو ما يعني أن آفاق التغيير في الوطن العربي ملبدة بغيوم داكنة، وليست هذه دعوة للإحباط بقدر ما هي تحفيز على العمل من أجل مستقبل أفضل.