قبل أسبوعين كتبت في الاتحاد مقالة بعنوان "مخاض الانتخابات الأميركية... العالم في غرفة الانتظار!"، وقلت في موضع منه: "في كثير من الأحيان، بسبب انتخابات الرئاسة الأميركية، تتأجل القضايا والاستحقاقات حتى لا تعكر صفو انتخابات الدول الأعظم. لذلك، فالكوارث أو الأزمات والحروب لا مكان لها في الأجندة ويجب أن تُؤجل لما بعد استحقاق انتخابات الرئاسة الأميركية التي يبدو أن الجميع منهمك فيها ويترقب نتائجها". ومن المعروف أن الولايات المتحدة هي جمهورية مؤسسات من الطراز الأول، وأن سياستها الخارجية وإستراتيجيتها الكونية لا تتغير بتغير ساكن البيت الأبيض سواء بقي الحزب في السلطة أم وصل إلى البيت الأبيض مرشح الحزب الآخر. فسياسة أميركا ومواقفها وثوابتها لا تتغير بل هي ثابتة وراسخة. الذي يتغير هو الأسلوب والأولوية وحجم الضغط وطريقة التعامل. وفي قراءة سريعة لمواقف وسياسات الرئيس أوباما ومقارنتها مع سياسات منافسه مرشح الحزب الجمهوري ميت رومني، لا نرى كثيرَ فروق بينهما. هذا رغم اتهام رومني لأبوما بإضعاف هيبة ومكانة أميركا التي لم تعد تتحكم وتؤثر بالأحداث بل تتأثر بها وبأن سياسة أوباما في الشرق الأوسط زادت من عدم الاستقرار في المنطقة، وبأن تساهله مع الصين يشجعها على التلاعب بعملتها مما يجعل بضاعتها أرخص حول العالم، وبأن العدو الأول لأميركا اليوم هو روسيا. تاريخياً وتقليدياً، فإن انتخابات الرئاسة الأميركية ليست تصويتاً واستفتاءً على الشؤون الخارجية والأمنية، بل الانتخابات هي بالأساس على قضايا اقتصادية وداخلية وخدماتية من الحكومة الفيدرالية ومن حكومات ومجالس الولايات التشريعية، مثل الوظائف والضرائب والبطالة والرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي والرعاية الصحية للمسنين، ومؤخراً دخل عليها حق المرأة في الإجهاض والمساواة وزواج المثليين. وهي قضايا تهم وتؤثر في كل مواطن، كما تحرك وتؤثر وتقسم وتفرق أو تجمع الأميركيين حول مرشح الرئاسة بناء على برنامج الحزب الجمهوري أو الحزب الديمقراطي. تاريخياً وتقليدياً لا تلعب الشؤون الخارجية والأمنية دوراً حاسماً ومؤثراً في انتخابات الرئاسة الأميركية، وقلما تؤثر تلك القضايا على قرار الناخب الأميركي إذا لم تكن الولايات المتحدة في حالة حرب. كما كان عليه الحال في الحرب العالمية الثانية التي فاز فيها وبشكل غير مسبوق روزفيلت لثلاث فترات رئاسية قبل أن يعتمد التعديل الدستوري الثاني والعشرين الذي حدد عدد مرات الرئاسة بفترتين. وكذلك في الحرب الباردة وحرب كوريا وفيتنام. حيث فاز أيضاً الجنرال السابق دوايت إيزنهاور بفترتين في البيت الأبيض. وفي حرب فيتنام في السبعينيات بفوز الرئيس نيكسون بفترتي رئاسة في البيت الأبيض قبل أن تطيح به فضيحة ووترجيت عام 1974. وفي العقد الماضي رأينا كيف طغى الشأن الخارجي والأمني على الرأي العام الأميركي وانتخابات الرئاسة الأميركية، بعد اعتداءات "القاعدة" الإرهابية عام 2001 وتأثير ذلك على انتخابات الرئاسة عام 2004 وحربي العراق وأفغانستان والحرب على الإرهاب التي أثرت وفرضت نفسها بقوة على انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2008، والتي بسبب حرب العراق والخسائر البشرية والكلفة المالية الكبيرة لتلك الحروب أطاحت بفرص جون ماكين وساهم ذلك في فوز أوباما تحت شعار التغيير. منذ البداية لم يكن لانتخابات الرئاسة الأميركية هذا العام، وهي الحدث الأهم والأكثر تأثيراً ومتابعة من بين جميع أحداث عام 2012، لم يكن لها تأثير على مجرى الأحداث. ولأول مرة خلال عقد غاب الشأن الخارجي وتراجعت القضايا الخارجية المؤثرة. ولم تعد من أولويات الناخب الأميركي أو مؤثرة في حسم معركة الرئاسة. الملفت في هذه الانتخابات هو غياب الشأن الخارجي بشكل شبه كلي. وبعكس ما كان عليه الحال في انتخابات الرئاسة لعامي 2004 و2008، حيث كان للشؤون الخارجية والأمنية الغلبة، وتم استغلال وتسويق تلك العوامل للتأثير على الرأي العام الأميركي، خاصة من قبل إدارة بوش الابن ضد منافسه الديمقراطي كيري عام 2004، وكذلك استخدمه ماكين ضد منافسه أوباما في انتخابات الرئاسة لعام 2008. وحتى هيلاري كلينتون استخدمت البعد الأمني في حملتها الانتخابية في منافستها الداخلية لأوباما قبل أن ينتزع ترشيح الحزب الديمقراطي منها عندما لعبت على مخاوف الناخب الأميركي في دعاية إعلانية مدفوعة الثمن: "إذا أتت مكالمة الساعة الثالثة فجراً حول شأن أمني، بمن تثقون..؟". حينها كان الشعب الأميركي تحت صدمة اعتداءات 11 سبتمبر 2001 والتداعيات التي أعقبت ذلك الحدث الإرهابي الذي هز أميركا من داخلها، حيث ذهب البعض ليقول إن أميركا بعد 11 سبتمبر 2001 لن تكون كما كانت قبله كنقطة فاصلة في تاريخها السياسي والأمني. لذلك كان تأثير الشأن الأمني والخارجي كبيراً على قرار الناخب حينها. وفي المناظرتين الأولى والثانية بين أوباما ومنافسه رومني، واللتين جرتا في الثالث والسادس عشر من شهر أكتوبر الجاري، والمناظرة الوحيدة بين نائب الرئيس جو بايدن ومنافسه المرشح الجمهوري لنفس المنصب بول رايان، لم يكن للسياسة الخارجية أي دور يذكر لو لم يُقحم الشأن الليبي على خلفية الفيلم المسيء للرسول صلى الله عليه وسلم حين استغلت حالة الهيجان والغضب الشعبي جماعات مسلحة معادية لأميركا وقد تكون مرتبطة بتنظيم "القاعدة"، فقامت بقتل السفير الأميركي في ليبيا أثناء وجوده داخل قنصلية بلاده في بنغازي مع ثلاثة من معاونيه. أما المناظرة الثالثة والأخيرة بين الرئيس أوباما ومنافسه مرشح الحزب الجمهوري والتي ستُجرى اليوم 22 أكتوبر فستكون عن الشؤون الخارجية والأمنية. ملّ المواطن الأميركي العادي الحروبَ والصراعات والنزف المالي والبشري في عصر يشهد تراجعاً أميركياً على مختلف المستويات، وفي نظام عالمي يتحول إلى التعددية القطبية. خاصة وأن المواطن الأميركي العادي مشغول بهمومه الداخلية من التوظيف والبطالة والضرائب والخوف من فقدان وظيفته. حيث يُصارع 15 مليون أميركي للحصول على وظيفة، وكثيرون يخشون خسارة وظائفهم. بالإضافة لقضايا الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي. لكن هل سيكون للسياسة الخارجية والأمنية أي دور أو تأثير في مفاجأة أكتوبر في الأسبوعين الأخيرين من الحملة الانتخابية؟ سنرى، ولنا عودة.