شن أنصار الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، حملة شعواء على فرانسوا هولاند بسبب ما اعتبروه تقاعساً عن حماية المصالح الفرنسية العليا في المحافل الدولية وسلبية واضحة منه في التعامل مع بعض القضايا الدولية التي تهم فرنسا وتؤثر على صورتها عالمياً. وهم بهذا يعقدون المقارنة بين سنوات ساركوزي في الحكم وما تميزت به من حركية ونشاط دائمين على الصعيد الدولي، وبين ما يرونه جمود هولاند وتنقلاته القليلة نسبياً. والحقيقة أن هولاند لم يدعِ قط أن له تصورات استراتيجية كبرى، ولا أبَان عن توجه جديد في السياسة الخارجية الفرنسية، لا أثناء الحملة الانتخابية التي قادته إلى قصر الإليزيه، ولا حتى بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية الفرنسية. فقد لاحظنا جميعاً ونحن نرصد خطابه الانتخابي خلال حملة الرئاسيات عدم تركيزه على القضايا الاستراتيجية وقلة اهتمامه بالشؤون الدولية، مفضلاً بدلاً من ذلك الانصراف إلى مشاكل الفرنسيين المتمثلة في الوضع الاقتصادي غير المريح وأزمة اليورو المستفحلة. وإن كان هولاند عندما انتُخب رئيساً وجد نفسه أمام استحقاقات دولية تفرض عليه الحضور خدمة لمصالح فرنسا ودفاعاً عن تواجدها الدولي. فما أن خطا أولى خطواته في الرئاسة حتى انخرط في العمل الدبلوماسي من خلال قمة دول مجموعة الثماني، وقمة حلف شمال الأطلسي، وقد كان لافتاً في هذا الصدد مقاومته الشديدة للضغوط الأميركية ومطالب الرئيس أوباما بتأجيل القرار الفرنسي السابق القاضي بسحب القوات الفرنسية من أفغانستان. لكن في المقابل لم يثر الرئيس الفرنسي أي اعتراضات على الدرع الصاروخية التي يعتزم أوباما نشرها في أوروبا الشرقية، وهو ما اعتبره المراقبون نجاحاً لهولاند في أولى خرجاته الدبلوماسية. وفيما عدا القمتين الآنفتين عكف هولاند مع نظرائه الأوروبيين على إنقاذ منطقة اليورو من الانهيار وحل المشاكل العويصة التي تتخبط فيها، فرغم الاجتماعات المتتالية والقمم المتكررة التي عقدها قادة الاتحاد الأوروبي طيلة السنة التي سبقت وصول هولاند إلى الحكم والتي وصفت كل واحد منها بأنها الأخيرة التي ستطرح الحل، استمرت الأزمة ومعها مخاوف المستثمرين. وعندما جاء هولاند سعى إلى المصالحة بين المواقف المختلفة التي تقسم الاتحاد الأوروبي، معيداً التأكيد على ضرورة تحقيق النمو الاقتصادي وعدم الاكتفاء بالتقشف كسياسة تدعو إليها ألمانيا. وقد نجح هولاند إلى حد كبير في إدراج تحفيز النمو ضمن لائحة الإصلاحات المقترحة على الاتحاد الأوروبي وأقنع المستشارة الألمانية بالتنازل قليلاً عن سياسة التقشف الصارم، لاسيما في ظل التداعيات الاجتماعية لتلك السياسية على دول جنوب أوروبا. ومع أن الأزمة الأوروبية لم تُحل مع مجيء هولاند، إلا أن حدتها خفت قليلاً بعدما توقف الحديث عن انهيار وشيك للعملة الموحدة. وكان هولاند من الذين ضغطوا أيضاً لإقرار الفكرة الفرنسية بفرض ضريبة على التعاملات المالية التي باتت مقبولة الآن داخل الاتحاد الأوروبي. بيد أن الانتقادات الحادة التي يواجهها هولاند فيما يتعلق بسياسته الخارجية تتمحور بالأساس حول تعاطيه مع الأزمة السورية، حيث يقارن أنصار ساركوزي بين تحرك هذا الأخير السريع والحاسم في قضية ليبيا وانخراطه المبكر في إسقاط معمر القذافي عبر حشد الرأي العام الدولي وإقناع أميركا بالتدخل، وبين فشل هولاند في الوقوف إلى جانب الشعب السوري. والحقيقة أن فروقاً شاسعة توجد بين الحالتين الليبية والسورية ولا يجوز المقارنة بين هولاند وساركوزي على أساسهما. ولا بد من التذكير هنا بأن التدخل الغربي في ليبيا جاء بعد تحوير معنى قرار 1973 الصادر عن مجلس الأمن الدولي الذي نص على حق حماية الشعب الليبي، فاتخذه الغرب ذريعة لإسقاط النظام، وهو ما لا تريده روسيا والصين أن يتكرر في الحالة السورية، ما يفسر رفضهما التصويت لصالح قرارات تدين النظام السوري في مجلس الأمن واستخدامهما حق النقض (الفيتو) لإسقاط أي محاولات للتدخل في سوريا. وأكثر من ذلك، فإن الوضع الاستراتيجي والعسكري مختلف بين كل من سوريا وليبيا؛ ففي الوقت الذي كان فيه الجيش الليبي ضعيفاً ومشتتاً بسبب سنوات طويلة من التهميش والإقصاء من قبل نظام القذافي، فإن الجيش السوري في المقابل يمتلك إمكانات أكبر وقدرة أهم على التعامل مع هجوم خارجي. كما أنه في غياب ضوء أخضر واضح وصريح من مجلس الأمن الدولي، سيتحول أي تدخل عسكري في ظل معارضة روسية وصينية إلى كارثة حقيقية. لذا تجمع الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا، على استبعاد الحل العسكري في المرحلة الراهنة على الأقل. وهنا لا يمكن اتهام هولاند بأنه خرج عن الإجماع، أو أنه متحفظ لوحده إزاء التدخل العسكري في سوريا، بل يمثل موقفه إجماع أوروبا وأميركا معاً على التريث وعدم الانخراط في مغامرة عسكرية غير محسوبة. ولعل ما يغفل عنه منتقدو هولاند أن هذا الأخير قام بخطوات مهمة للمصالحة مع بعض الدول التي لم تكن راضية عن ساركوزي، أو التي أثار الرئيس السابق استياءها مثل اليابان التي لم يخصها ساركوزي بزيارة واحدة طيلة فترته الرئاسية، بل أطلق تصريحات بشأن رياضة السومو الوطنية اليابانية اعتبرها البعض مسيئة وتخلو من اللياقة الدبلوماسية. هذا بالإضافة إلى الاحتقان الذي ميز رئاسة ساركوزي تجاه تركيا وتكراره المستمر بأن لا مكان لها داخل الاتحاد الأوروبي، كما أن علاقات المكسيك مع فرنسا توترت بسبب إلغاء ساركوزي لاحتفالات يوم المكسيك بفرنسا بسبب اعتقال أحد الفرنسيين وإيداعه السجن في المكسيك. أما في السنغال، فقد أثار ساركوزي غضب الأفارقة عندما قال في أحد خطاباته هناك إن الرجل الأفريقي لم يدخل التاريخ، وهو ما اعتبره القادة الأفارقة إساءةً لهم ولقارتهم. هذه الهفوات وغيرها هي ما سعى هولاند بمزاجه الهادئ وطبعه المتواضع، إلى إصلاحه، لتبقى الخلاصة في النهاية أن فرنسا، سواء تعلق الأمر بساركوزي أو هولاند، لن يتغير وضعها الدولي كثيراً، فهي لم تعد القوة العالمية التي كانت في السابق، لكن مع ذلك تبقى قوة يُعتد بها ولها مكانتها على الصعيد العالمي بغض النظر عن شخصية الرئيس الذي يقودها.