يدخل العالم العربي مرحلة جديدة من التحول الثقافي. ففي الماضي كانت الثقافة جزءاً من الكيان الرسمي للدولة وللأنظمة السياسية السائدة. فكما أنّ النظام السياسي كان قائماً على أسس معينة، كانت تقف إلى جانبه أيضاً ثقافة سياسية محددة، تدافع عنه ويدافع عنها، وكأنما العلاقة بين السياسة والثقافة المهيمنة علاقة عضوية لا ينفك أحدهما عن دعم الآخر والارتباط به. أما اليوم، وبعد التغيرات الهائلة التي يشهدها العالم العربي، وبالرغم من بروز تيارات سياسية قوية تُنظِّر باتجاه سياسي أوحد، وبالرغم مما يقال عنها من أنها تحتكر الشارع السياسي، فإن مثل هذه الحركات السياسية تحمل في جذورها نفس الإشكالية الجذرية القديمة التي قضت على الأنظمة السياسية التي سبقتها، فكأنما الخليفة يعيش على تراث سالفيه، وكأنما آفة سالفيه ستلحق به ولو بعد حين. كان معظم أساتذة السياسة ينظرون في الماضي إلى التعددية الثقافية على أنها سمة حضارية من سمات المجتمعات المتمدنية في البلدان الغربية أو الحديثة، سواءً في كندا أو الولايات المتحدة (وإن بشكلٍ أقل)، أو في بلدان غرب أوروبا. وحتى في بعض البلدان الآسيوية المتمدنية مثل ماليزيا، فقد شهد نموها الاقتصادي الهائل حالة من التنوع الثقافي والتعايش السلمي بين مكونات المجتمع وثقافاته العرقية المختلفة التي تآزرت لتكوّن مجتمعاً مدنياً حديثاً. فالتعددية الحضارية أو الثقافية، كانت ولا تزال من سمات التقدم والحضارة، وإن خبا وهجها بعض الشيء هذه الأيام في بعض البلدان الأوروبية. في البلدان العربية، كانت الثقافة السياسية السائدة هي الثقافة الواحدة، غير أن مثل هذه الثقافة كانت تحمل كذلك بذور تنازع مستقبلي، خصوصاً بين الفئات المثقفة والصفوة المتعلّمة. ويعود ذلك في رأيي إلى أنه على الأغلب فإن المثقفين الذين ترعرعوا ومتن عودهم في أحضان المدارس التقليدية ووجدوا قبولاً من المجتمع بعلوّ باعهم، شعروا بأنهم قد امتلكوا زمام أمرهم، وأنهم يملكون حقيقة مطلقة لا يمكن لأحد من مقارعتها. وفي بعض الأنظمة السياسية العربية الأخرى، تمّ استيعاب أعداد كبيرة من خريجي المدارس التقليدية وجامعاتها في صفوف بيروقراطية حكومية كبيرة جمعت بين خريجي المدارس التقليدية وخريجي المدارس الحديثة. وبالتالي تم تأجيل الصراع بين هاتين الطبقتين من المثقفين. أما في بلدان ثالثة، ومنها بلدان إسلامية غير عربية، فقد أغلقت أبواب البيروقراطية أمام خريجي المدارس التقليدية، وأشرعت أمام خريجي المدارس الحديثة الذين يملكون زمام لغة أجنبية، ويستطيعون التداخل والارتباط بمصالح الدولة، ومصالح الشركات التجارية التي تتعامل مع شركات أخرى خارج الحدود. هذا التنافس العميق بين ثقافتين متمايزتين، تقليدية وحديثة، قاد في بعض الأحيان إلى صراعات سياسية، بل وإلى أعمال عنف احتجاجية، لفتح الأبواب المغلقة أمام من يطرق الباب، ممن لم يكن له حول ولا طول في منهاج تعليمه ومسار تثقيفه. في البلدان الغربية، كان التمايز الثقافي دليلاً على نضج المجتمعات وقدرتها على استيعاب آراء ومشارب وثقافات متباينة، بل والاستفادة منها في فتح أسواق جديدة أمام شركات عابرة للقارات تحاول فتح سوق جديد، أو حكومات تحاول التواصل مع بلدان وحكومات وشعوب أخرى مستخدمةً ما يتوافر لديها من خبرات وتعليم أبناء المهاجرين الذين يتوافرون على ثقافتين وهويتين متمايزتين، تكمل إحداهما الأخرى، ويستفيد ويوظف الفرد منهم هذه الخبرات لمصلحته الذاتية، أو لمصلحة المؤسسة التي يعمل لديها. هذه الصورة المشرقة للتعايش بين الثقافات في البلدان الغربية لم تكن دائماً وردية، وإنما شابتها في بعض الأحيان حالات هيجان وعنف كانت وليدة أزمات اقتصادية، أو نعرات عنصرية وإثنية، لكنها لم تكن بالضرورة سياسات يمكن للحكومات المعنية انتهاجها دون أن تكون هناك ردود فعل سلبية من الأغلبية في تلك المجتمعات. المجتمعات العربية في الماضي القريب كانت مجتمعات تؤمن بالقومية الواحدة والوحدة الوطنية. أما اليوم فإن التمايز والاختلاف الثقافي أصبح سمة غالبة. وربما أخذ هذا التمايز في بعض الأحيان سمات عرقية أو قبلية أو مذهبية. كما أن هذا التمايز الثقافي أحادي بطبعه لا يقبل التعدد ولا يعرض التسامح في التعامل مع الآخر. فالكعكة السياسية كبيرة وجاذبة بحيث تجبر قاصديها على التدافع، وإبعاد الآخرين عن السبيل، طالما وجدوا ضالتهم في إقصاء الآخرين بناءً على ثقافتهم المغايرة، أو انتماءاتهم الإيديولوجية. التعايش القديم في ظل الدولة القومية الموحدة، يقابله اليوم إقصاء متعمد، وعدم تحمل للتعدد والاختلاف. ومثل هذا التصارع في المجتمعات العربية، خاصةً في أعقاب "الربيع العربي"، قد يحمل في طياته نذر خراب للدولة القومية العربية، وبذور تفسّخ وانحلال لمؤسساتها الدستورية. ويأخذ هذا الصراع أشكالاً متعددة، فهناك الصراع على صياغة عقد اجتماعي جديد (الدستور)، وهناك صراع على دور المؤسسات التقليدية التي تقود المجتمع، كالصحافة والإعلام. وربما استغلّت هذه الأدوات، خاصةً الحديثة منها، كوسائل الاتصال الاجتماعي للإضرار بلحمة المجتمع ومحاولة تفكيك أواصره. ويستخدم أقطاب الثقافة الجديدة أو التقليدية أساليب إقصائية، بدلاً من الأساليب الحوارية. ونفي الآخر سمة بدائية تحمل في طياتها غياب احترام الفرد لأخيه، والركون إلى أساليب التجييش الشعبي و"المليونيات" لحجب الآخرين وإقصائهم. وتبذل جهود كبيرة في هذا الصراع المنهك للصفوة وأتباعها، وبدلاً من بناء مؤسسات سياسية توافقية، فإن المجتمعات العربية تسير نحو صيرورة اجتماعية جديدة يكون التهميش جزءاً من ثقافتها السياسية، وبالتالي تعود الكرّة من جديد، وتعود عجلات الاستفراد والهيمنة الثقافية، وإن أُلبست أردية شعبوية لتعطيها قدراً من الشرعية!