رغم القرب الجغرافي بين أوروبا والعالم الإسلامي والجوار الذي جمعهما لقرون طويلة تظل العلاقات بين الغرب والإسلام ملتبسة إلى أبعد الحدود، بين من يضعها في خانة الصدام والصراع، كما يفعل صامويل هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات، وبين من يسعى إلى إعادة تأسيس العلاقة بالرجوع إلى التاريخ وتقصي مختلف مراحل التواصل والاندماج التي ميزت الصلات بين الطرفين في أفق الخروج بنظرة أقل تسطيحاً وأكثر مراعاة لتعقيدات العلاقة. هذا الالتباس يسعى الكتاب الذي نعرضه اليوم بعنوان "أوروبا والعالم الإسلامي... تاريخ"، لمؤلفيه جون تولان وهنري لورينز وجيل فينستين إلى تسليط الضوء عليه من أجل نظرة أوسع تحيط بتعقيدات العلاقة التاريخية بين الإسلام والغرب في تجلياتها المختلفة ومراحها المتعاقبة، تدحض الخطاب الثقافي السائد حالياً الذي تصور احتدام صراع دائم بين حضارتين متناقضتين. فهل يمكن اعتبار العالم الإسلامي بتسمياته المختلفة التي دخلت الأدبيات الغربية حضارةً مختلفة عن العالم الغربي وبالتالي في صراع دائم معه، أم أن العالمين الإسلامي والمسيحي وجهان لحضارة واحدة يمتلكان من المشتركات أكثر مما يفرقهما؟ للإجابة عن هذا السؤال يرجع بنا الكتاب إلى مراحل تاريخية مختلفة تبحث في تطور رؤية كل طرف في أعين الآخر. فرغم استخدام مصطلحات توحي بالوحدة الأيديولوجية والتماسك الجغرافي، مثل عبارة أوروبا، يرى مؤلفو الكتاب أن التاريخ يثبت العكس، فالعرب في العصور الوسطى لم ينظروا إلى أوروبا باعتبارها قارة موحدة، أو كياناً سياسياً وأيديولوجياً متماسكاً، بل تعاملوا معها حسب القوميات والكيانات العديدة التي تسكنها. هذا التشظي في رؤية كل طرف للآخر إنما يسوقه المؤلفون لنفي النظرة الاختزالية الحالية والتي تسعى إلى تقزيم المسلمين في خانة واحدة تجمعهم في إطار عالم إسلامي موحد تؤطره أيديولوجية الجهاد ضد الغرب، أو تلك التي ترى في الغرب كتلة أيديولوجية واحدة. الكتاب يبحث أيضاً في تاريخ الصراعات الممتدة، بدءاً من تشكل الإمبراطورية الإسلامية وزحفها على أوروبا، وليس انتهاء بالحروب الصليبة والاستعمار الحديث، كلها تشي ظاهرياً بأن العلاقات بين أوروبا والغرب كانت صفحة دموية من الحروب والحروب المضادة، والحال أن التجاور الجغرافي لم يفتح شهية سكانه على السيطرة وبسط النفوذ فقط، بل شكل أيضاً فرصة للتبادل التجاري والتلاقح الثقافي، فمعروف مثلاً الدور الذي لعبته الموانئ الأوروبية، مثل جنوة والبندقية وبرشلونة في التجارة مع العالم الإسلامي، والعلاقات الوثيقة التي ربطت الطرفين في القرون الوسطى، كما أن التبادل الثقافي كان دائماً في قلب العلاقة الثنائية، وهو الدور الذي لعبته الأندلس بامتياز. وبعيداً عن تاريخ الصدام الذي يسعى أتباع نظرية هانتنجتون للتركيز عليه باعتباره التاريخ الوحيد الممكن بين العالمين الإسلامي والمسيحي، يرى الكتاب أن تلك النظرة ليست أكثر من قراءة معينة للتاريخ بحمولة أيديولوجية واضحة، ولا يمكن الاستدلال على الصدامات العديدة بين الطرفين على مر التاريخ بكونها مصيراً محتوماً يحكم المستقبل، ففتح المسلمين للأندلس (711م) والحملة الصليبية الأولى (1109) وفتح القسطنطينية (1453) وسقوط غرناطة (1492)، ثم استعمار فرنسا للجزائر، وأخيراً احتلال فلسطين، والتدخل الأميركي في العراق وغزو أراضيه... ليست السمة الوحيدة في العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي، ومن غير العدل وضعها في خانة الحروب الحضارية، وإلا لماذا مثلاً لا يتم إقحام الحروب الأخرى التي جرت داخل أوروبا في هذه الخانة، أو تلك التي حصلت داخل العالم الإسلامي، مثل إطاحة المماليك على أيدي العثمانيين، أو الحروب الدينية في أوروبا، أو الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين مزقتا القارة العجوز. وحتى لا يقتصر الكتاب على العنوانين العريضة يرجع إلى الحقب التاريخية الثلاث التي درسها المؤلفون؛ وهي مرحلة العصور الوسطى (تمتد من القرن الخامس عشر وحتى القرن الثامن عشر)، ثم المرحلة الأخيرة التي يعرفها المؤرخون الفرنسيون عادة بالمرحلة المعاصرة. وفي كل تلك المراحل يُظهر المؤلفون أوجه التداخل العديدة في العلاقات بين ضفتي المتوسط، إذ لم تقتصر على الصراع العسكري والثنائية المتضادة، بل شهدت تشابكات عدة عبّرت عنها في بعض الأحيان التحالفات العسكرية بين أطراف الصراع المختلفة، حيث سعى أمراء الأندلس مثلاً إلى التحالف مع بعض أمراء قشتالة في تنافسهم مع مسلمين آخرين، كما أن الصليبيين تحالفوا مع مسلمين في الشرق للبقاء في ثغورهم، هذا بالإضافة إلى الأواصر الثقافية التي تعززت والتحولات الأخرى اللاحقة التي فرضت على العالم الإسلامي تبني تغييرات جوهرية، عندما أدرك تأخره مقارنةً بأوروبا، وهو ما استغلته لفرض سيطرتها والدخول في مرحلة الاستعمار. زهير الكساب ------ الكتاب: أوروبا والعالم الإسلامي... تاريخ المؤلفون: جون تولان وهنري لورينز وجيل فينستين الناشر: جامعة برينستون تاريخ النشر: 2012