يعد المفكر ذائع الصيت الدكتور عبدالوهاب المسيري الذي فارق دنيانا قبل أربع سنوات واحداً من الموسوعيين، في زمن تراجع فيه وجود المثقفين الإحاطيين في حياتنا الفكرية بدرجة كبيرة، تارة لكسل عن الإخلاص للمعرفة في حدها الأقصى، الذي يقوم على مبدأ «القراءة بلا حدود وفي أي اتجاه»، كما قال نجيب محفوظ يوماً ما، وتارة نتيجة الاستسلام للاكتفاء بالتخصصات الدقيقة في ظل الانشطار المعرفي الذي نعيشه في الوقت الراهن، والذي قاد الكثير من مدارس البحث في العلوم الاجتماعية إلى التركيز على ما يسمى «الأبحاث الصغيرة»، أو التي تعالج «قضايا نووية» معزولة، أو مسائل فرعية محدودة، قد يعيش الباحث طوال حياته منكباً عليها، غارقاً فيها، لا يعرف شيئاً غيرها أو خارجها، سادراً في شعور زائف بالاكتفاء. والاهتمام بالفروع ليس شراً محضاً، ولا تفاهة خالصة، حين يؤمن أصحابه بروح الجماعة العلمية أو الفريق البحثي، لكنها تصير تافهة وهامشية حين يعتقد هؤلاء أن ما يمتلكونه هو العلم من أبوابه الواسعة كلها، وأنه ليس هناك حاجة إلى الإلمام بالكل من أجل فهم الجزء، وأن هذا الجزء الصغير يمكن أن يستمر وجوده، ويتطور قدماً بمفرده، مستغنياً تماماً عن عطاء الفروع الأخرى من العلم، ومكتفياً بحالة من الجدل الداخلي الدائم. ومثل هؤلاء لا يلتفتون كثيراً إلى أن فروع العلوم قد تطورت من خارجها، أو نتيجة لتفاعلها مع فروع علمية أخرى، فهي في هذه الحال تبدو نهيراً صغيراً ينبع من النهر الكبير، أما إن انغلق الفرع على ذاته، أو هكذا فعل به أصحابه والمختصون فيه، فإنه يصير مثل بركة ماء، حبيسة، أقصى ما يطرأ عليها من تغير إيجابي هو أن تضربها الرياح، فيهتز سطحها، ولكن تظل أعماقها راكدة، وتحتاج إلى زلزال كي ترتج وتموج فلا تتعفن. وهناك باحثون ينأون بأنفسهم عن هذه المسارات الضيقة، فيزاوجون بين الرؤية العامة العميقة والتخصص الدقيق، ويتخذون من الأولى إطاراً أرحب لفهم الثاني، الأمر الذي يهبهم تميزاً ملحوظاً في مجالهم. وهناك مَن يعلون فوق هذه المسارب الصغيرة، وينهلون من كل خبر بطرف، ويقطفون من كل بستان للمعرفة أجمل ما فيه من أزهار وورود، ويضربون الأفكار والمعلومات والرؤى والاتجاهات على اختلافها مع بعضها بعضاً، فيخرجون بحاصل معرفي جديد. ومثل هؤلاء يرتقون الدرجة الأولى للثقافة، وعليهم أن ينحازوا إلى الناس وقضاياها، والمجتمع ومشاريعه، مبتعدين عن غواية السلطة، وعليهم أيضاً أن يتمسكوا بالمثل، ولا يستسلموا لرداءة الواقع، حتى يشدوا أمتهم وراءهم على طريق النهضة، ومن ثم يستحقوا أن يحملوا لقب مثقفين. ويجد المسيري نفسه من بين هؤلاء الذين يستحقون لقب مثقف موسوعي. فالرجل بدأ مسيرته العلمية في رحاب الأدب المقارن. وهذا الحقل المعرفي يهب صاحبه فرصة كبيرة للاطلاع على ثقافة الشعوب وأفكارها، إذ إن الأدب يحوي أفكاراً وقيماً ويصف طرائق عيش البشر وأساليب حياتهم، علاوة على أنه في الأساس تشكيل جمالي للغة، يهب مَن يحبه ويهضمه عذوبة في الأسلوب، وبراعة في تناول أعقد القضايا وأكثرها تجريداً في ثوب حكائي، يقربها من الأذهان. ولم يكتف المسيري باستخدام هبة الأدب هذه في كتاباته الفكرية والسياسية، بل جرب هو نفسه فن القص، وخاضه في أصعب صوره بالنسبة إلى مفكر طالما كان يحلم بإنتاج معرفة نظرية عميقة، تزاوج بين التجريد والاستشهاد المعلوماتي الغزير. ووجه الصعوبة هذه يكمن في أن هذا المفكر العميق المهتم بالنظريات والمناهج والاقترابات العلمية كتب قصصاً للأطفال، وهذا في نظر كثيرين أصعب ألوان القص، خصوصاً أن مَن يبدعه يمتلك رؤية غاية في العمق للأفكار والأشياء، ويكتب عن القضايا الكلية، ويحلل المقولات والسرديات الكبرى، التي شغلت الإنسان، وستظل تشغله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ويصف المسيري الأدب بأنه «حبه الأول والأخير» ويرجع إليه الفضل في تعزيز اهتمامه بالخصوصية، وقضية التحليل من خلال النماذج، ويقول: «الأدب العظيم يتعامل مع الإنسان في أقصى تركيبته، ولذا فهو يمكن أن يصبح معياراً، يكتشف من خلاله الباحث اختزالية ما أمامه من نصوص أدبية وغير أدبية». ويلفت المسيري انتباهنا إلى أن دراسته وقراءته وكتابته للأدب علّمته النظرة من زوايا متعددة إلى الظواهر الإنسانية، حتى يكون بوسعنا أن نفهمها على الوجه الأفضل. ومن الأدب دخل المسيري إلى عالم السياسة من بابين، باب الإيديولوجيا ممثلاً في الماركسية، ثم باب الاهتمام والتخصص ممثلاً في الصهيونية. وهذان البابان قاداه إلى الدخول إلى عوالم علمية وفكرية عدة مثل علم الاجتماع من شتى زواياه ودروبه الوسيعة، والفلسفة وعلم النفس والسياسة بمختلف فروعها وتخصصاتها، ومقارنة الأديان. وفي هذا كله استفاد المسيري ما وهبته له دراسة الأدب من قدرة على تحليل النصوص وتصنيف أشكال الخطاب والوصول إلى المضامين من أقرب نقطة. وحب المسيري للأدب، والظروف التي تهيأت له في سياق مهمة علمية وطنية لدراسة الصهيونية من خلال مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وانتقاله إلى الولايات المتحدة لمواصلة الدراسة والبحث، واحتكاكه بمدارس فكرية وعلمية عديدة، هذا كله جعل المسيري يمتلك تلك الموسوعية، المشهود له بها، والتي وصلت إلى حدها الأقصى في موسوعته الخالدة «اليهود واليهودية والصهيونية»، وهي عمل عملي فريد وعميق، غيّر الكثير من المفاهيم المرتبطة بالصراع العربي- الإسرائيلي، ولذا سيظل يقرأ بعناية ورعاية كاملتين في السنين المقبلة، على رغم أي انتقادات توجه إليه، أفرزتها إحن الأيديولوجيا، أكثر من افتراضات العلم وفروض المعرفة.