عادت قضية التعرض للسفارات الأميركية، خلال الاحتجاجات على الإساءة للإسلام، فبرزت في الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة. ناقشها المرشحان لمنصب نائب الرئيس جو بايدن وبول راين بالتركيز على حرق قنصلية بنغازي حيث قتل السفير كريستوفر ستيفنز وثلاثة دبلوماسيين آخرين، وينتظر أن تكون موضع جدل بين المرشحين للرئاسة أوباما وميت رومني في مناظرتهما التالية. رغم مرور أكثر من شهر على الحادث والتحقيقات الناشطة لتحديد ملابساته، لا يزال هناك تضارب في تصريحات المسؤولين. فأقصى ما ذهبت إليه الخارجية هو أنه "عمل إرهابي". أما التسريبات غير المنسوبة إلى مسؤولين محددين فأفادت بأن تنظيم "القاعدة"، أو بالأحرى أحد فروعه الليبية هو من نفَّذ العملية. وبعيداً عن أروقة الحكم في واشنطن، يتحدث الوسط السياسي الليبي وكذلك الشارع في بنغازي عن علاقة "القاعدة" بالحادث منذ لحظة وقوعه، ذلك أن الناس يعرفون الوجوه التي كانت هناك وشاهد بعضهم كيف انزلق الوضع من احتجاج شعبي إلى اشتباك مسلح، ثم حريق وفرصة للنهب. أما لماذا فضلت دوائر واشنطن الغموض وحافظت عليه، فلأن مجرد وصول "قاعديين" إلى مقر ديبلوماسي أميركي يعدُّ إخفاقاً أمنياً لم يعد مسموحاً به منذ هجمات 11 سبتمبر 2001. ثم إن بعض جوانب التحقيق قد تظهر وجود نقص في الحماية أو ثغرة في الاجراءات. ومن الواضح أن الإرهابيين المحتملين رصدوا شيئاً من التساهل أو "الاسترخاء"، واستنتجوا أن الهجوم ممكن. لكن الأرجح أنهم لم يكونوا على علم بوجود السفير. وليس مؤكداً أن ثمة استرخاءً، بل شعوراً بأن درجة العدائية منخفضة، باعتبار أن أميركا ساهمت في إسقاط النظام السابق، وأن الليبيين جميعاً يعرفون ذلك. غير أن تحليلاً واقعياً لحال الفوضى الأمنية كان يستوجب عدم التقليل من خطر جماعات متطرفة ومدججة بالسلاح. إذا عطفنا واقعة بنغازي على ما حصل حول السفارات الأميركية في القاهرة وصنعاء وتونس، يمكن تفهُّم "الصدمة" التي أصيبت بها واشنطن. فهذه "عواصم الربيع العربي" التي باشرت رهاناً عليها، فإذا بسفاراتها فيها تتعرض لما لم يكن متصوراً حدوثه في عهد الأنظمة السابقة، حتى لو كان الأمر يتعلق بإساءة إلى رسول الإسلام. ولم تعرف تلك العواصم، من جانبها، كيف تبرر ما حصل ولا كيف تعالجه. وباستثناء اليمن فإن حساسية الحكام الجدد في البلدان الأخرى تتعاطف مع المحتجّين من جهة وتجد في حراكهم الحماسي فرصة متاحة للاستغلال السياسي. أي أن "الإخوان" لا يريدون أن يركب السلف الموجة، والسلف وجدوا المناسبة سانحة للمزايدة. طبعاً كان هناك من نزلوا إلى الشارع لأنهم صادقون في احتجاجهم وحنقهم على الإساءة، وليس هؤلاء من كانت لديهم تعليمات خفيّة بأن يفلعوا أي شيء يمكن أن يحوِّل الاحتجاج إلى "غزوة" للسفارات. في اليمن قتل الأسبوع الماضي المسؤول عن التحقيق في حادث اقتحام السفارة الأميركية في صنعاء، ربما لأنه حدد هوية المهاجمين. ولا شك أن هؤلاء معادون لأميركا، لكنهم معادون بالقدر ذاته لليمن. أما في مصر وتونس، فأمكن تجاوز الواقعتين لأن أضرارهما ظلت محدودة، لكنهما سلطتا الضوء على التناقض "الإخواني"- السلفي الذي يحاول أصحابه جاهدين تظهير واجهة "تضامن إسلامي" استناداً إلى التقائهم الافتراضي على "الأهداف". وهو ما ليس مضموناً. إذ أن "غزوة" السفارات أظهرت أن مؤسسات الأمن غير مأمونة الجانب، ويتوجب تغييرها في العمق. فهذا ما أمكن فهمه من "فيديو" رئيس حركة "النهضة" التونسية. وحيثما بقيت مؤسسات من الأنظمة السابقة توصم بأنها "فلول" يراد تصفيتها، أما حيثما لم توجد مؤسسات كما في ليبيا أو توجد لكنها محتكرة عائلياً كما في اليمن فإن "الفلول" يشكلون خطراً بطبيعة الحال. إذاً، فالتحوُّل الديمقراطي يواجه تحدياً أولاً هو الأمن. لعل هذه الحقيقة فرضت مراجعة معمقة في مختلف العواصم الكبرى، ومنها بالأخص واشنطن. لذلك بدت هيلاري كلينتون كمن يعطي خلاصة التفكير في تداعيات مهاجمة السفارات، إذ قالت إن الولايات المتحدة لن تعود إلى "الخيار السيىء بين الحرية والاستقرار"، وأنها "مقتنعة بأن شعوب العالم العربي لن تستبدل استبداد الجماهير باستبداد الديكتاتور"، ثم استخلصت أن التحول الديمقراطي "ضرورة استراتيجية". أي أن واشنطن تجدد رهانها، طالما أنها لا ترى خيارات أخرى بديلة.