مرة أخرى تتسبب أزمة الدين في وضع بريطانيا أمام خيار: هل تبقى في القارة أم تنطلق نحو البحار المفتوحة؟ البريطانيون المعروفون باعتزازهم الشديد باستقلاليتهم تأرجحوا بين المسارين عبر العصور، حيث كانوا يزدرون، بل يحذرون من "القاريين" في الوقت الذي كانوا يوسعون نطاق تمددهم عبر المحيطات. لكن الوضع تغير في التاريخ الحديث، حيث فضل البريطانيون أن يكونوا"داخل" القارة عن أن يكونوا"خارجها" وهو ما يتبين من استمرار عضويتهم في الاتحاد الأوروبي لأربعين عاماً تقريباً، حتى وإنْ كانوا يستخدمون الجنية الأسترليني بدلاً من اليورو. والحفاظ على "اليورو" هو الذي يحث البريطانيين في الوقت الراهن على التساؤل عن العلاقات التي يجب أن تربطهم بباقي أوروبا. ومع سيطرة المتشككين في جدوى الانضمام للاتحاد الأوروبي على سياق الخطاب العام في بريطانيا في الوقت الراهن، وأخذاً في الاعتبار الاجتماعات الثلاثة المهمة لرؤساء الدول، التي ستتم قبل الكريسماس حيث من المنتظر أن تقرر كل قمة من القمم اتخاذ المزيد من الخطوات نحو التكامل الأوروبي، يلمح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في الوقت الراهن إلى احتمال إجراء استفتاء على عضوية بريطانيا في "اليورو"، ففي تصريح أدلى به مؤخراً قال رئيس الوزراء البريطاني إن التغييرات في بنية الاتحاد الأوروبي تتطلب"موافقة جديدة" من الشعب البريطاني. على ضوء ذلك كله بات ضرورياً التفكير في غير المفكر فيه: ماذا يحدث لو أن بريطانيا تركت الاتحاد الأوروبي؟ في الوقت الراهن، يبدو أن فهم وجهة نظر المشككين في الاتحاد الأوروبي قد بات أيسر مما كان عليه في أي وقت سابق. تتمثل وجهة نظر تلك الشريحة في أن أعضاء منطقة "اليورو"السبعة عشر يحاولون الدفع بأجندة لم توافق عليها بريطانيا أبداً، وتتمثل في تركيز السلطات، والسماح لقيادة الاتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية بروكسل بسحب السيادة من لندن. ويرى المتشككون أن بريطانيا في هذه الحالة لن تكون هي الدولة التي "تخرج" الاتحاد الأوروبي بل إن الاتحاد الأوروبي سيكون هو المنظمة التي "تخرج"من بريطانيا. في عام 1973، انضمت المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي كي تصبح جزءاً من السوق الأوروبية المشتركة، ولكن ما يحدث الآن أن أصحاب الرؤية الإندماجية المتطرفة مثل ألمانيا يدفعون- حتى وهم يؤجلون استكمال السوق المشتركة- في اتجاه كافة أشكال "السلطة المجمعة المركزية"، التي يجد البريطانيون المعتزون باستقلاليتهم أنفسهم مضطرين لمقاومتها. إنه إذن صراع رؤى جوهري بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء البريطاني "ديفيد كاميرون" تريد "ميركل" في إطاره اتخاذ خطوات "أكثر وأسرع" على طريق التكامل الأوروبي في الوقت ذاته الذي يريد فيه رئيس الوزراء خطوات "أقل وأبطأ" على ذلك الطريق. وهناك صعوبة متزايدة تواجه بريطانيا في البقاء في منتصف المسافة بين "داخل" الاتحاد الأوروبي و"خارجه". فمع استمرار منطقة "اليورو" في بناء المزيد من المؤسسات للتحكم في العملة، والحد من الدين فإن بريطانيا ستتعرض للمزيد من التهميش، إذا ما بقت على وضعها الحالي. أما إذا قررت بريطانيا التحرر من أغلال العبودية الأوروبية، فإنها ستتمتع بحريتها، وتشق طريقها الخاص في العالم الواسع بمفردها. فعلى الرغم من أنها ستكون أقل نفوذاً في أوروبا عما هي عليه الآن إلا أنها ستتمكن من إقامة علاقات تجارية مع من تشاء من دول مثل الصين والهند والبرازيل وغيرهم من عمالقة الغد. ووفقاً لرؤية واقعية للغاية للاستراتيجية الجديدة (تمت مناقشتها بالفعل في حزب المحافظين الذي يقوده كاميرون)، فإن بريطانيا ستقوم بتأمين اتفاقية تجارية حرة مع الاتحاد الأوروبي وتحويل نفسها إلى دولة شبيهة بسويسرا، ولكن مسلحة نووية- على حد تعبير أحد أعضاء البرلمان البريطاني عن حزب "المحافظين". وهناك رؤية أكثر طموحاً ترى بريطانيا كدولة محورية وسط شبكة مرنة واسعة ومتداخلة من التجارة العالمية، تعتمد في التعامل معها- على روابطها التاريخية مع دول منظومة الكومنولث التي أقامتها، وتركز على إبرام علاقات مع دول ذات حكومات مسؤولة في المقام الأول. أما القوات المسلحة البريطانية، فستتحول إلى نسخة أصغر من سلاح المارينز الأميركي، تركز جل اهتمامها على المنطقة الأوروبية- البحر متوسطية ولا تتمدد عالمياً إلا بالمشاركة مع القوات الأميركية من حق كل دولة بالطبع أن تغرق نفسها في أوهامها الذاتية، ولكن من يرسمون ملامح هذه الاستراتيجية لا يسألون أنفسهم: ما الذي سيجعل أميركا حريصة على إقامة علاقة خاصة مع بريطانيا عندما تكون هذه قد فقدت نفوذها وأهميتها في أوروبا بالفعل؟ وما الذي يدعو دول الاتحاد الأوروبي لمنح مزايا اقتصادية خاصة لبريطانيا بعد خروجها منه. وما هو مدى النجاح المتوقع لتلك الاستراتيجية في الوقت الذي توشك بريطانيا أن تخرج من قائمة العشرة قوى الاقتصادية الكبرى على مستوى العالم. يصف بعض المسؤولين الأوروبيين طريقة التفكير البريطانية بشأن القارة على أنها نوع من"الوعي الزائف"، فهي تدرك أن مصالحها في أوروبا ومع ذلك تسعى لأن تفرض على نفسها عزلة ذاتية تجعلها تتعيش في برودة قاسية على أطراف القارة حسب تعبير المؤرخ البريطاني الشهير "تيموثي جارتون آش". وليست بريطانيا فقط هي التي ستشعر بالبرودة، وإنما ستشعر بها باقي دول أوروبا. فأفق القارة سيتقلص وتفقد الكثير من قوتها الصلبة، وستجد هذه دولها نفسها في حيرة بشأن من تصادق بعد أن تهرب بريطانيا وتميل بوصلة أميركا في اتجاه الصين. هل هذه هي أوروبا التي تريد بريطانيا في سياق رغبتها في الابتعاد، أن تخلقها؟ ــــــــــــــــــــــــــــــ توماس كلاين بروكهوف زميل رئيسي بصندوق مارشال الألماني ورئيس مشروع" يورو فيوتشر بروجكت" ينشر بترتيب خاص مع خدمة"كريستيان ساينس مونيتور"