قبل حصول الهند على استقلالها عام 1947 كانت هناك آراء تقول إنها لن تصلح أبداً لأن تكون دولة ديموقراطية، أما اليوم تعتبر الهند أكبر ديموقراطية في العالم. ولا أزال أتذكر أولئك الساسة الذين كانوا يزعمون أن أميركا اللاتينية الخاضعة آنذاك لحكم جنرالات صارمين ومسنين ومرتدين زيهم الأنيق ربما لن تشهد سوى ديمقراطية هزلية مطبقة فقط فيما بين هؤلاء الجنرالات. نقرأ أحياناً آراء تذهب إلى أن المسلمين لن يرضوا أبداً بالعيش في ديموقراطية. ويذكرنا المؤرخون أن (أكبر) إمبراطور الهند المسلم في القرن السادس عشر كان يرحب بفكرة التسامح الديني ونشوء دولة علمانية. وتعتبر تركيا حالياً مثالاً على دولة إسلامية تحكمها الديمقراطية. صحيح أنها سجنت عدداً كبيراً من كبار الضباط الذين كانوا يريدون إعادة تركيا إلى حكم عسكري ولكن يبدو أن الساسة المنتخبين هم الذين يحكمون تركيا بالفعل. أتساءل عمّا إن كان قد دار في ذهن الرئيس المصري محمد مرسي ما حدث في تركيا من محاكمات وأحكام بالسجن حين أقال المشير طنطاوي بعد أسبوع واحد فقط من تعيينه وزيراً للدفاع.. وكان المشير يحكم مصر بصفته رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة عقب ثورة 25 يناير 2011. وهناك من يرى أن مصر بسكانها البالغ عددهم 83 مليوناً وتاريخها العريق هي التي تضبط الإيقاع في العالم العربي. وشهدت مصر انتخابات برلمانية حرة، وأضحى إعلامها منفتحاً على كافة الاتجاهات. وفي ليبيا ورغم أن السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز لقي حتفه إثر اختناقه بالدخان في 11 سبتمبر الماضي عقب تعرض القنصلية الأميركية في بنغازي للهجوم، إلا أن الأمور في سبيلها إلى التقدم. ويسعى رئيس الوزراء الليبي مصطفى أبو شاقور، الذي سحبت منه الثقة في اقتراع المجلس الوطني الانتقالي، إلى السيطرة على العديد من الفرقاء وتجميعهم تحت إمرة قادة الجيش الليبي. وقد تم تسليم أعداد كبيرة من الأسلحة - والدبابات - إلى السلطات، وفي غضون 18 شهراً سيتم انتخاب برلمان متكامل، وهناك ما يشير إلى أن الجماعات السياسية المعتدلة في ليبيا عازمة على المشاركة الإيجابية في النشاط السياسي. تتعرَّض الثورة في سوريا إلى مشاكل عصيبة وقتل أكثر من 20 ألف سوري منذ اندلاع الاحتجاجات العامة في مارس 2011. ويوشك النزاع على التحول إلى حرب دينية، وتضخ إيران أموالاً ضخمة دعماً للرئيس بشار الأسد. وليس عندي من شك أنها مسألة وقت وللأسف سفك الكثير من الدم قبل أن يرحل الرئيس بشار عن المشهد. لدى دول مثل تونس واليمن قصص أفضل كثيراً، ومن الواضح أن التيّار متوجه ضد النموذج القديم من الحكام المستبدين المعتادين على إهمال حقوق الفرد. وأظن أن التغيرات العربية قد بدأت في نشر الديموقراطية وسوف تظل كذلك لسنوات قادمة. وأعتقد أنها أعطت دفعة جديدة لإرساء حقوق الإنسان وخصوصاً حق الشعب في حياة كريمة يحظى فيها الأفراد بحقوق الرعاية الصحية والتعليم والسكن، وغيرها من الحقوق الأساسية. يريد الناس حق انتخاب نوابهم وقادتهم لحماية أنفسهم وأسرهم. وشهدت على مدى عمري تزايد أعداد البشر القادرين على اختيار نوابهم. وسوف تنتقل المناداة بالحرية والكرامة وتكافؤ الفرص عبر حدود الدول بفضل ثورة الاتصالات. ويذهب البعض إلى أن الإسلاميين سيتولون زمام الأمور في الشرق الأوسط الذي يتشكل الآن أمام أعيننا. لكني أشك في ذلك رغم أنهم ربما يستفيدون من بداية جيدة. فالناس يريدون اكتشاف ما يتجاوز الشعارات الدينية ومعرفة مزايا وعيوب مختلف الإجراءات الاقتصادية مثلاً. إن الحكم الرشيد بالغ الصعوبة والتعقيد. كما أن هناك التوجهات والمستجدات الدولية التي يجب أخذها في عين الاعتبار وهناك دائماً حاجة إلى درجة من التحرك السياسي والمرونة الدبلوماسية. ويبدو أنه سوف يكون هناك في العقد المقبل نوع من الابتعاد الأميركي عن الشرق الأوسط الذي لم يسبق توقعه من قبل. يكمن أحد الأسباب الذي فاجأ كثيرين من المراقبين في تزايد استخدام الغاز الصخري في الولايات المتحدة وتقليص الاعتماد على النفط. ونحن نعلم أنه من عشر سنوات فقط لم يكن الغاز الصخري يشكل سوى واحد في المئة من إجمالي انتاج الغاز بالولايات المتحدة، وأنه في غضون 25 عاماً من المنتظر أن يأتي نصف الغاز الطبيعي في أميركا من الغاز الصخري. وأتصور أن الاتحاد الأوروبي سيزداد قرباً من الشرق الأوسط مع ابتعاد الولايات المتحدة عنه وأنه سيكون مستعداً لمساندة "الربيع العربي" بمزيد من الدبلوماسية وغيرها من المساعدة.