لنفترض أن نمو الاقتصاد الأميركي تراجع إلى مستويات متدنية دون أن يتقيد ذلك بفترة زمنية محدودة، بل امتد إلى فترات مفتوحة قد تصل إلى سنوات طويلة فما الذي سيحدث؟ هذا السؤال هو ما حاول الاقتصادي الأميركي من جامعة نورثويسترن، "روبرت جوردن"، الإجابة عليه في ورقته البحثية التي أصبحت موضع جدل واسع، فقد كتب جوردن أن العالم شهد على مدى 250 عاماً الأخيرة ثلاث ثورات صناعية كبرى، الأولى ارتكزت على اختراع المحرك البخاري والسكك الحديدية التي جاءت بالقطار، والثانية اعتمدت على الطاقة الكهربائية ومحرك الاحتراق الداخلي المستخدم حالياً، بالإضافة إلى تجهيز البيوت بأنابيب المياه. أما الثورة الصناعية الثالثة، فهي التي شهدت قدوم أجهزة الكمبيوتر والإنترنت. ويرى "جوردن" أنه بتعويض القوة البشرية بالآلة الميكانيكية في عملية الإنتاج وبتسريع وتيرة النقل والتواصل كانت للثورة الثانية الفضل الأكبر، مقارنة بالأولى والثالثة، في رفع وتيرة الإنتاج وخلق الثروة، والحقيقة أن هذه الفرضية يؤكدها إلى حد كبير تراجع مكاسب الإنتاجية المرتفعة في الولايات المتحدة وما صاحبها من زيادة الثروة خلال العقود الأخيرة مقارنة بمقاييس النمو الكبيرة التي رافقت التاريخ الأميركي، فالإنترنت على سبيل المثال التي ميزت عصرنا الراهن إنما تساعد على الاستهلاك أكثر من الإنتاج، فيما التطورات التي جاءت بها الثورة الثانية مثل النقل الجوي وتوسع المدن والتحكم في درجة الحرارة داخل البيوت لم تعرف تحسناً كبيراً ولا إضافات نوعية منذ اكتشافها. والنتيجة كما يعتقد ذلك "جوردن" أن بطء النمو الاقتصادي سيكون السمة الأساسية لما تبقى من القرن الجديد، ولأن الفوارق الاقتصادية ستعيق أكثر عملية النمو فإن جميع شرائح المجتمع، ما عدا نسبة 1 في المئة من الفئات الأكثر غنى، ستراجع استهلاكها بنسبة سنوية تصل إلى 0.2 في المئة، وهي النسبة التي لا ترقى لتحقيق معايير العيش الأميركية ولا تتناسب مع الحلم الأميركي. وإذا صدقت توقعات "جوردن"، علماً أنه يبني فرضيته على معلومات حقيقية، فإننا قد نشهد اختفاء التفرد الأميركي، فالولايات المتحدة كانت هي البلد الوحيد في العالم الذي تتزامن حياته عبر التاريخ مع الثورة الصناعية ومكتسباتها، فنحن ولدنا في ذات الوقت الذي ظهر فيه النمو ولطالما تعاملنا معه كحق طبيعي. كما أننا أكثر من أي دولة أخرى اعتمدنا على النمو الاقتصادي للتخفيف من حدة الصراعات الاقتصادية، لذا فإن أميركا من دون نمو ستكون بقوة الأشياء بلداً مختلفاً تحتدم فيه الصراعات وتستمر. ومع أن "جوردن" يبدو مفرطاً في تشاؤمه بشأن المستقبل، إلا أن توقعاته حول إكراهات عدم المساواة والعولمة وباقي المعوقات وتأثيرها السلبي على النمو الاقتصادي تكتسي الكثير من الوجاهة والمصداقية، فماذا يعني الركود لسنوات طويلة بالنسبة لمستقبل أميركا؟ الحقيقة أن الظروف الاقتصادية الصعبة غالباً ما تقود إلى الصراعات، بحيث ربما يبحث الأميركيون وقتها عن كباش فداء لتحميلها مصاعبهم مثل المهاجرين والاتحادات العمالية، لكن الركود المتواصل قد يفضي أيضاً إلى صراع طبقي، الذي بمعايير الدول الأخرى يظل غائباً عن الساحة الأميركية، باستثناء فئة الأغنياء، فمنذ أن تباطأ النمو الاقتصادي في سنوات السبعينيات سعى الأغنياء إلى الضغط للحصول على مكاسب تمكنوا فعلاً من الحصول عليها مثل تغيير السياسة الضريبية ورفع الرقابة عن القطاع المالي وتغيير قوانين تمويل الحملات الانتخابية والتعامل مع النقابات ما جعلهم يحصلون على حصة الأسد من ثروة البلاد. لكن مع تراجع النمو لفترات طويلة، فإنه قد تنقلب الحرب الطبقية من الأغنياء الذين بدأوها لمصلحتهم إلى حرب ثنائية تخوضها أيضاً الطبقات الأخرى، فلو واصل الأغنياء احتكارهم للمكاسب والثروة، فلا شك أن نسبة 99 في المئة من الأميركيين ستطالب بإعادة توزيع الثورات. فرغم المعارك التي خاضتها الطبقتان العمالية والوسطى للظفر ببعض الامتيازات على مر التاريخ مثل الضمان الاجتماعي بموجب الخطة الجديدة وفرض ضريبة تصاعدية على الدخل والرعاية الصحية وحقوق العمال وحقهم في التكتل، إلا أنها كانت معارك على فترات متباعدة، كما أن تلك الانتصارات لم تكن ناجزة في الكثير من الأحيان. وسرعان ما تم التراجع عنها مثل حقوق العمال والضريبة التصاعدية على الدخل. والأهم من ذلك أن نضالات الشعب الأميركي لم تكن أبداً مطالبة بتوزيع الدخل، لكن إذا انقلبت الظروف الاقتصادية لغير صالح العمال والطبقات الوسطى وتوقفت أميركا عن النمو الاقتصادي الذي يكفل لهم حصة من الكعكة، فإن المطالب ستتعالى بإعادة توزيع الثروة وسيتم التركيز على بعض الشركات الكبرى، ناهيك عن العودة إلى تقنين القطاع المالي، وفرض ضريبة تصاعدية وتمويل حكومي للحملات الانتخابية وتوفير الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية. وبالنظر إلى الانقسامات العرقية والثقافية التي تنخر المجتمع الأميركي، فإن صعود حركة مطالبة بإعادة توزيع الثورة سيكون له تداعيات كبرى. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هارولد مايرسون كاتب أميركي متخصص في الشؤون الاقتصادية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"