لما كان بعض المسلمين المهاجرين في الخارج يعيشون في مجتمع غريب يصعب الدخول إليه والتأقلم معه والانصهار فيه نظراً لطبيعته الرافضة، وجدت بعض الحركات الإسلامية المتطرفة وسطاً خصباً للانتشار ولتجنيد النشطين. ومن طبيعة الأقليات حاجتها إلى زعامات محلية ترعاها، وتدافع عن حقوقها، وتحولها من العجز إلى القوة، ومن الأقلية إلى الأغلبية، ومن السكون إلى الحركة، خاصة وهم مستعدون لذلك، نظراً للمفاضلة بينهم وبين المجتمع الجديد. وتشهد باريس وباقي العواصم والبلدان الأوروبية على ذلك في المظاهرات الأخيرة للمهمشين في الضواحي، وحرقهم العربات، وتدميرهم المحال، إعلاناً عن غضبهم من المجتمع الرافض لهم. وهم من الجيل الثاني من المهاجرين الذين يرون في بلد الهجرة وطناً أول لهم بعد أن بعد العهد بينهم وبين الوطن الأم، إلا ما تبقى من إعالة الأهل من الرزق الجديد. ولما كان المجتمع الجديد طارداً للوافدين الجدد فيه لعنصريته وطائفيته وجد قادة الحركات الإسلامية المتطرفة في هذه البيئة المهاجرة مرتعاً خصباً لاستمرار مزاولة النشاط الديني السياسي. وكلما اشتدت قوانين الهجرة اتجه المهاجرون إلى النشطاء الجدد يستعيدون بها هويتهم. وكلما ازداد اليمين الأوروبي صعوداً وسياسته المعروفة الطاردة للمهاجرين وجد المهاجرون في الأدعياء الجدد الملاذ الأخير لتقويتهم والتمسك بمطالبهم. واستمرت المفاصلة بين الأقلية والأغلبية. وحملت الحمية الدينية سلاح الهوية للدفاع عن النفس ضد حصار الأغلبية. ووجدت الجماعات الإسلامية المتطرفة في الخارج مع بعض قادتها المهاجرين من أوطانهم في الهجمة الاستعمارية الجديدة دافعاً لتجنيد النشطاء. وكانوا من قبل قد انتصروا مع المقاومة الأفغانية على الغزو السوفييتي لأفغانستان، وأخذوا لقب "العرب الأفغان". والأمة الإسلامية معتدى عليها في المسجد الأقصى، قدس الأقداس، وفي فلسطين، الوقف الإسلامي، وفي العراق مسقط رأس سيدنا إبراهيم. وقبل ذلك في أفغانستان البلد الذي قاوم الاستعمار الأجنبي مئات السنين، موطن جمال الدين الأفغاني، وفي سبتة ومليلية بشمال المغرب العربي، من بقايا الاستعمار الإسباني القديم بعد سقوط غرناطة آخر مدن المسلمين بالأندلس. والغرب في نظر هؤلاء هو المعتدي. وعندما يكون المعتدى عليه أضعف من المعتدي فإنه قد يخترع أساليبه في ردع العدوان بحرب العصابات، الكر والفر. وقد ربط البعض في الغرب الإسلام بالإرهاب من أجل تبرير عدوانه المبيت على العراق. وربط بين المقاومة والإرهاب لنزع سلاح المقاومة في فلسطين. وجعل نفسه حامياً لحقوق الإنسان، والرافض لموت الأبرياء في القطارات والطائرات والأسواق والمحال العامة والحافلات العامة. وما زال حتى الآن يرفض تحديد مفهوم الإرهاب، والتمييز بين الإرهاب بمعنى قتل الأبرياء والمقاومة المشروعة من طرف شعب محتل. وتم التركيز على الإرهاب الإسلامي وليس الإرهاب الصهيوني في فلسطين أو البروتستانتي في أيرلندا أو الهندوسي في الهند وسيريلانكا. وتم إبراز الصلة بين الإرهاب والدين لأن الشعوب المعتدى عليها ما زالت مرتبطة بتراثها القديم، ولم تصبح علمانية بعد كما هو الحال في المجتمعات الأوروبية، في حين أن الإرهاب الديني ليس هو كل الإرهاب. هناك الإرهاب السياسي، والإرهاب الاجتماعي، والإرهاب الاقتصادي. فتفجير أوكلاهوما لم يكن إرهاباً دينياً بل كان إرهاباً سياسياً برفض سلطة الحكومة الفيدرالية دفاعاً عن استقلال الولايات. وعمليات منظمة "إيتا" في أراضي إقليم الباسك إرهاب سياسي وليس إرهاباً دينياً. وهو تشويه لحضارات الشعوب المعتدى عليها لتبرير العدوان مثل اتهام العقليات الأفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية بأنها "بدائية" أو "وحشية" أو "برية". كما أنه رد للكل إلى أحد أجزائه، واختزال للتاريخ كله على امتداد أربعة عشر قرناً إلى سنوات محدودة. ونُسيت الحضارة العربية الإسلامية في دمشق وبغداد والبصرة والقاهرة والقيروان وآسيا الوسطى وفي ربوع الأندلس وإبداعاتها في العلوم الرياضية والطبيعية وعلماء المسلمين، البيروني والخوارزمي وابن الهيثم وابن رشد، ولم يُذكر إلا إرهاب "القاعدة". وهل يُذكر من تاريخ أوروبا إلا محاكم التفتيش وحرق جيوردانو برونو، ومذبحة سانت بارتلمي، واضطهاد جاليليو، ومحاولة قتل اسبينوزا، وقطع رأس توماس مور، وعصر الإرهاب في الثورة الفرنسية أم نذكر أيضاً الحضارة الأوروبية وإبداعاتها في العلم، وفلسفة التنوير التي أضاءت العالم كله؟ إن الهدف الحقيقي من ربط الإسلام بالإرهاب هو الدفاع عن المصالح الغربية. والهدف من ذلك كله القفز على آسيا عبر أوروبا، واستيلاء العالم الجديد على العالم القديم كنوع من الالتفاف البري على القارة الآسيوية كما أراد كولمبوس الالتفاف عليها بحراً عبر الإبحار غرباً للوصول إلى الشرق. فالاستعمار القديم يعيد نفسه في الاستعمار الجديد، وهو الالتفاف حول العالم غرباً وشرقاً. والحصار الجغرافي مقدمة للحصار التاريخي، والقضاء على ثقافات الشعوب الآسيوية، وتعميم النموذج الغربي من خلال ثورة الاتصالات، وثلاثة أرباع المسلمين يعيشون في آسيا وحتى تنتهي الهويات الثقافية للشعوب التي خرجت فيها حركات التحرر الوطني. والواقع ليس حجة على الفكر، وواقع المسلمين ليس حجة على الإسلام، ولا كانت أوروبا حجة على المسيحية، أو إسرائيل حجة على اليهودية. فالتخلف والتسلط والفقر والطائفية والعرقية في العالم الإسلامي لحظة تاريخية في مساره الطويل، تعبر عن ضعفه بعد قوة، وعن تخلفه بعد تقدم، وعن جهله بعد علم. كما أن واقع أوروبا بالقرون الوسطى العنصري الحربي الذي يقوم على العدوان وشريعة الغاب ليس حجة على المسيحية، دين التواضع والتسامح والمحبة. كما أن واقع الكيان الصهيوني العنصري ليس حجة على اليهودية أو شريعة موسى ولا علم تعاليم الأنبياء. فهذا خلط بين الواقع والفكر، بين المسلمين والإسلام، بين المسيحيين والمسيحية، وبين اليهود واليهودية. بل إن مصير بعض الأديان في التاريخ هو انقلاب أهلها إلى الضد. تحول المسلمون من التقدم إلى التخلف، ومن الاستقلال إلى الاحتلال، ومن الريادة إلى التبعية. وتحول المسيحيون من المحبة إلى العدوان، ومن ملكوت السماوات إلى ملكوت الأرض، ومن مملكتي ليست من هذا العالم إلى مملكتي فقط في هذا العالم. وتحول بنو إسرائيل من الأمة التي فضلها الله على العالمين إلى أمة العنصرية والعدوان. وقد أعلن الغرب عن ذلك صراحة في "صراع الحضارات" وهو إعلان عن بداية حرب عالمية ثالثة وعدوان على الشعوب باسم الحضارة الحديثة والمدنية والتحضر لتعميم ثقافة الرجل الأبيض في القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وتوحيد الثقافات كلها في إطار ثقافة الرجل الأبيض، النموذج الأوحد لكل الثقافات مثل توحيد العالم كله في قطب واحد هو القطب الأميركي في عالم أحادي القطبية. فالثقافة الأوروبية معيار لكل الثقافات، والحضارة الغربية معيار لكل الحضارات! والحقيقة أن الإسلام كفكر وكحضارة وكنسق للقيم لا يعرف الإرهاب ولا العنف ولا الإكراه. بل هو دين تسامح واعتراف بالرأي الآخر. فلا يجوز إراقة الدماء. والإكراه ليس مصدراً للإيمان "لا إكراه في الدين"، ولا يجوز إكراه أحد على دين "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، وإيمان المكره لا يجوز "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان". بل إن شعار الإسلام الأول وهو الشهادة إعلان عن حرية الضمير الإنساني بفعل النفي في "لا إله" ثم فعل الإيجاب في "إلا الله". والحوار والإقناع والمحاججة والبرهان خير من ألف سيف وذراع ودفع وقوة. وقد حاور عليٌّ رضي الله عنه الخارجين عليه بالفكر. ونشأ في ثقافة الإسلام علم الجدل لوضع منطق للحوار. إن ربط الإسلام بالإرهاب إنما يتم عن سوء فهم في الداخل إذا كان ترويعاً للآمنين، وسوء نية في الخارج من أجل إيجاد ذريعة ضد المسلمين. وتكون مهمة العلماء تصحيح الفهم في الداخل وكشف سوء النية في الخارج. وفي كلتا الحالتين اتباع أسلوب الحوار في الداخل. فالدين النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينتج عنه منكر أعظم منه. وهو ما يتفق مع المواثيق والشرائع الدولية، وتجنب الأبرياء في كل الحالات دون الوقوع في المعيار المزدوج أو التمييز بين أبرياء المعتدى عليهم وأبرياء المعتدين.