ارتبطت الرأسمالية في الأذهان منذ ظهورها بالصراع بين أطراف العمل، وفي ضوء التجاذب بين هذه الأطراف وتوصيف النماذج المثالية، وأحياناً الطوباوية، التي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات فيما بينها، ظهر معظم الإيديولوجيات والنظريات السياسية والاقتصادية الكبرى خلال القرنين الماضيين من فوضوية واشتراكية وشيوعية وليبرالية قديمة أو جديدة. ولا تزال اجتهادات علماء الاجتماع الغربيين تترى في هذا المجال حاملة كل يوم رؤية جديدة بهدف إعادة توصيف العلاقة وتحديد قواعد اللعبة فيما بين أطراف الإنتاج من ملاك رأس مال كبار ومنتجين صغار، وما بين هؤلاء وأولئك من أشكال مهن تنظيمية وإنتاجية مختلفة. ولعل ضمن آخر النظريات الرامية إلى فض الاشتباك بين أطراف العمل هذه التي نشير هنا بشكل خاطف إلى رؤوس أقلام منها، وقد طرحتها عالمة الاجتماع والأكاديمية إزابيل فريراس في كتابها الصادر منذ قرابة شهر وعنوانه "التحكم في الرأسمالية"، الذي أعادت فيه تفكيك العلاقة بين ملاك رأس المال في الشركات والعمال المنتجين، مقترحة نظماً جديدة في إدارة علاقات الطرفين تزيد من قدرة العمال على التأثير في ما تتخذه الشركات من قرارات، وفي الوقت ذاته تزيد أيضاً حضور ودور الدولة في التحكم بالعملية الإنتاجية، وتنظيم العلاقة بين طرفيها في النظام الرأسمالي القائم أصلاً على عدم تدخل الحكومة في الأنشطة الاقتصادية. والحال أن نظرية فريراس ترقى إلى مصاف إحداث ثورة جديدة في إدارة الشركات والأعمال، حيث تستند الإصلاحات المطلوبة التي تدعو إليها إلى فكرة أساسية هي ما سمته "ثنائية الإدارة" حيث يكون تسيير الشركة بيد مجلسين متوازيين، هما مجلس الإدارة المتحكم فيه أساساً من ملاك رأس المال، ومجلس الإنتاج المتحكم فيه من قبل العمال المنتجين، ويمثل التدخل الحكومي أحياناً دور الحكم بين المجلسين عندما يكون ذلك ضرورياً. وهنا تنطلق الكاتبة من فرضية عمل مؤداها أن الشركات في الغرب تحولت إلى جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان اليومية ومع ذلك فإن المد الديمقراطي والإصلاحي التجديدي في التسيير والتدبير ظل يتوقف باستمرار على عتباتها، وظلت هنالك دائماً فكرة مضمرة في العمل الرأسمالي هي أن الغاية من وراء عمل الشركات عموماً تتمثل أولاً وأخيراً في مراكمة العائد المادي من ورائها على مالكي رأس المال، ولذلك يتم تطويع وتوجيه نظم وقواعد العمل لكي تحقق هذه الغاية تحديداً بطرق تسيير أحادية النظرة والهدف، حتى لو نجم عن ذلك تهميش لمصالح من لا يملكون رأس المال، وإن كانوا هم أول شروط الإنتاج. ومن هنا فإن إعادة بناء عقد اجتماعي جديد في المجتمع الصناعي الغربي تقتضي إعادة رسم خطوط العلاقة، وتوزيع فرص التأثير في اتخاذ القرارات، على نحو يضمن حضوراً أقوى لمن يسميهم علماء الاجتماع بالمستثمرين بالجهد والعمل، وهذا يعني استطراداً تعظيم مشاركة القوة العاملة في تسيير وإدارة شؤون الشركة الرأسمالية، من خلال نظام تسميه الكاتبة بالإدارة الثنائية، يمكن تشبيهه بنظم التسيير السياسي والتشريعي التي تتألف عادة من مجلسين يعملان وفق توازن محسوب للسلطات، بحيث لا يستطيع أي منهما الانفراد باتخاذ القرار، مثلما هو معروف في عالم السياسة في النظم الديمقراطية. وفي هذه الحالة، وكما سبقت الإشارة، يتكامل أداء مجلسي إدارة الشركة، بحيث لا يتخذ أي قرار مهم دون الحصول على تصويت داخل المجلسين وبنسبة لا تقل عن 50% + 1 من المنتجين. واستباقاً لأية مخاوف من أن هذا النوع من نظم إدارة الشركات قد يتحول إلى سبب للإعاقة في اتخاذ القرار داخلها ترى الكاتبة، على العكس، أن هذا النوع من أنواع التسيير والإدارة من شأنه تيسير وتسهيل عملية اتخاذ القرار والإنتاج داخل الشركات، وخاصة أن العمال سيشعرون بأنهم جزء من صناعة القرار في الشركة، وبأن لديهم سلطات رقابية وتسييرية كابحة لأي توسع في استخدام السلطة من طرف المديرين والبيروقراطيين وأعضاء مجالس الإدارات. وترى فريراس، أخيراً، أن هذا هو التطور المنشود لمفهوم تسيير الشركات في القرن الحادي والعشرين، إذ لم يعد ممكناً الحديث عن ضخ جرعات قوية من الدمقرطة والتحديث في كل شيء في حين تبقى نظم إدارة الشركات في الغرب بعيدة عن ذلك، محتفظة بقواعد لعبة أخرى تكرس فصاماً نكداً بين الرأسمالية والديمقراطية. حسن ولد المختار -------- الكتاب: التحكم في الرأسمالية المؤلف: إيزابيل فريراس الناشر: المنشورات الجامعية العامة PUF