في رائعته "كائن لا تُحتمل خفّته"، يصف ميلان كونديرا الجدل الذي كان دائراً بين التشيك بشأن الشيوعيين الذين تسبّبوا بحماستهم في قيام نظام قمعي في بلادهم مدعوم من السوفييت، وهم يدافعون عن أنفسهم بأنهم أبرياء كانوا مؤمنين بالقضية، لكنهم تعرّضوا للخداع ولم يكونوا يعرفون المصير الذي ستؤول إليه بلادهم. وكان السؤال: هل كانوا يعرفون أم لم يكونوا يعرفون أم تظاهروا بأنهم لم يكونوا يعرفون؟ وكان توماس، بطل الرواية، يتابع هذا الجدال ويفكّر بأن "السؤال الأساسي ليس: هل كانوا عارفين؟ بل: هل هم أبرياء لأنهم غير عارفين؟ أيكون الغبي الجالس على العرش منزّهاً عن كل مسؤولية فقط لأنه غبي؟" وتذكّر في خضم هذا الجدال حكاية "أوديب". وتقول الأسطورة إن راعياً من "طيبة" عثر على طفل لقيط ، فأخذه إلى مدينة بعيدة ليربيه ملكُها. عندما كبر "أوديب" قتل رجلاً بعد أن اختلف معه على أحقية المرور على طريق جبلية. ثم وصل "طيبة" وهناك امتحنته أبو الهول بلغز، وتمكّن "أوديب" من حلّه، فنصبه أهلها ملكاً عليهم وزوّجوه من أرملة ملكهم السابق. لكن تفشي الأمراض والفقر في المدينة أقلق "أوديب"، فلجأ إلى كاهن رأى أن الأحوال ستبقى سيئة ما داموا لم يعثروا على قاتل الملك السابق. وأخذ "أوديب" على عاتقه العثور عليه، وتتبّع الأحداث إلى أن عثر على ذلك الراعي، وهنا عرف أن الرجل الذي قتله كان ملكاً، وهو والده، وأن المرأة التي تزوّجها هي أمه، فشعر بالذنب وفقأ عينيه بالدبابيس ورحل عن "طيبة". وكان توماس يفكّر بأن "أوديب" شعر بالذنب تجاه شعبه رغم أنه لم يكن يعرف، بينما الشيوعيون الذين تسبّبوا بجهلهم وحماستهم في وقوع بلادهم تحت السيطرة الأجنبية، لا يزالون يزعقون بأنهم أبرياء لم يكونوا يعرفون. ولعلّ أقرب الناس إلى حالة الشيوعيين التشيك هم بعض دعاة الخليج الذين تحوّلوا من منهج يدعو للعنف والهدم، إلى منهج يدعو للتسامح والبناء، وفي الطريق ما بين المنهجين تتناثر جثث المغرّر بهم، وعلى جنباته يمكن رؤية لطخات دماء الأبرياء، وسماع آهات من فقدوا أولادهم، وتذكّر مشاعر الهلع التي كانت تنتاب الناس في تلك المرحلة. العودة إلى الصواب أمر عظيم بطبيعة الحال، لكن الأمر غير العظيم أن يطلّ الدعاة أنفسهم على شاشات الفضائيات ليروّجوا لمنهجهم الجديد، كأنّ أحداً لم يفقد روحه بسبب ضلالهم القديم، وكأن مستقبل أبناء الناس رهن إشارتهم: كنا قد أمرناكم بالقتل، والآن نأمركم بالتقبيل! والمفارقة أن بعض الدعاة المتحولين يحمل الآن راية الإصلاح في الخليج من خلال تهييج الناس بحجة الديمقراطية، فهل سنسمعهم غداً، بعد خراب الأوطان وإعادتها إلى الوراء، يطلّون على الملأ ويزعقون بأنهم أبرياء لم يكونوا يتصوّرون كيف ستؤول إليه الأمور؟ من عرفوا أنهم كانوا لا يعرفون، أفضل شيء يمكنهم فعله بعد أن يقرّوا بمسؤوليتهم ويعتذروا، أن يصمتوا ويرحلوا، أقله من باب الاعتراف بخفّة عقولهم وسطحية تفكيرهم، في السابق على الأقل، ذلك أن السؤال الأساسي: "ليس: هل كانوا عارفين؟ بل: هل هم أبرياء لأنهم غير عارفين؟ أيكون الغبي الجالس على العرش منزّهاً عن كل مسؤولية فقط لأنه غبي؟".