يبدو أن التغييرات التي حدثت في تونس منذ ثورتها التي كانت فاتحة ثورات "الربيع العربي" والتي أطلق عليها اسم "ثورة الياسمين" وأدت إلى فرار بن علي خارج البلاد وإطاحة نظام حكمه القوي في أوائل عام 2011، يبدو أن تلك التغييرات أصبحت واضحة وماثلة للعيان: فقد أصبح المجال السياسي مفتوحاً ويتسم بقدر كبير من الحرية والحركية النشطة، كما بات يوجد في الوقت الحالي أيضاً مجتمع مدني نشط للغاية. لكن إلى جانب ذلك فإنه توجد مشكلات أيضاً، بما في ذلك ظاهرة العنف المسجل بشكل متكرر أثناء التظاهرات الاحتجاجية، فضلاً عما تتعرض له بعض الاحتفالات الفنية والثقافية المنظمة من قبل نشطاء ليبراليين من هجمات على أيدي مجموعات شبابية سلفية متطرفة تعارض تلك الأنشطة وترى فيها هدماً للمقدس الديني! وفي ذلك أمثلة تثبت أنه ما زال ثمة الكثير من العمل الذي يجب القيام به لإحداث التغيير الحقيقي الذي وعدت به الثورة وحلم به شبابها في تونس. أنا شاب تونسي أشارك في المظاهرات بنشاط، خاصة تلك المظاهرات التي لم تكف عن الخروج للمطالبة بالتصدي لبقايا الطغيان وللتعامل بعقلانية وبروح وطنية إيجابية مع الهيجان الذي جاء بعد الثورة، ومن هنا يتوجب علي أن أطرح السؤال التالي كما يطرحه كل شباب تونس في هذه المرحلة: ما الذي تغير فعلاً في بلادنا بعد أن أنجزت ثورتها وتخلصت من نظام بن علي الاستبدادي؟! ما زال الوضع الأمني غير مستقر، بل يتصف أحياناً بالاضطراب والهيجان، مما يثير مخاوف لدى قطاعات واسعة من الشعب. أما الاقتصاد ليس في أفضل حالاته، بل لا يزال عاجزاً عن استعادة عافيته، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تحدث الاضرابات والاحتجاجات العمالية من تأثير سلبي على دينامية الإنتاج. وفيما يخص نظام التعليم، فإنه لم يظفر إلى الآن بالإصلاح الموعود، والذي كان واحداً من أولويات الثورة ومطالبها الرئيسية. لا يزال مستقبلنا كتونسيين ينتظر المزيد من العمل والبناء بغية تحقيق المطالب والأهداف التي نشدتها الثورة، ودفعت في سبيلها دماء غالية وأكلافاً باهظة... وفي ذلك يعود الأمر كله تقريباً إلينا كشباب، حيث تتعلق الأنظار بمواقفنا وتحركاتنا وما سنقوم بفعله... وثمة على أية حال مؤشرات أمل واضحة تدفع للتفاؤل بما هو آت من قابل المراحل في تاريخ البلاد. لقد أصبحت هناك تغييرات ملموسة عندما يتعلق الأمر بمسألة الحرية: فقد أصبحت حرية التعبير وحرية الكلام، بما فيها حرية انتقاد الحكومة، أصبحت واقعاً معاشاً في حياة التونسيين لا مجال للتفريط فيه أو للتراجع عنه. إلا أنه رغم ذلك توجد مشاكل كبيرة يتعين التصدي لها ومعالجتها بحنكة وعقلانية وروح منفتحة: فهناك حركات متطرفة لا تقبل سوى أيديولوجيتها ولا تعترف بحقوق الآخرين في حرية التعبير والتصرف والانتماء. فعلى سبيل المثال، وخلال شهر يناير الماضي، كانت هناك احتجاجات عنيفة ضد معرض تونس للفنون، والذي عرض أعمالاً من عدة دور عرض فنية وفنانين تونسيين. ولا شك أنه بإمكان الساسة والأحزاب السياسية التونسية تصحيح انحرافات كهذه بعيداً عن مخاطر تقييد الحريات أو الحد منها. وفي هذا الخصوص يتوجب إقناع الجماعات المتطرفة بأنه لديها أيديولوجيتها السياسية الخاصة بها، وبأنه يتوجب عليها الاعتراف -وبشكل مفتوح- بشرعية الأيديولوجيات ووجهات النظر الأخرى، وأن يكون لذلك الاعتراف تعبيراته الواضحة والصريحة في خطاباتهم ومسلكياتهم العملية... فمن هنا، ومن هنا فقط (أي من الاعتراف المتبادل)، يمكن أن تبدأ الديمقراطية الصحيحة. وبالمثل، يجب أن يلعب المجتمع المدني التونسي دوره في تشجيع الحوار والتعايش المشترك بين الأطياف الاجتماعية والثقافية والسياسية على اختلافها في البلاد، وهو أمر يتطلب بالضرورة إيجاد نقاط مشتركة بين الأحزاب المختلفة وتذكيرها بالقاسم المشترك بينها جميعاً، ألا وهو تونس ذاتها. ولابد أن نلاحظ في هذا الصدد أن المجتمع المدني نفسه، والذي تغير كثيراً في ظل الواقع الجديد لتونس، أصبح أكثر نشاطاً، وقد امتد نشاطه ليشمل السياسية والاجتماعية والاقتصادية... رغم ما يطبع تلك البيئات من اضطراب وتحول في ظل الحياة العامة التونسية في الظرف الحالي. تنشأ الجمعيات في كل مكان، تثري المشهد الاجتماعي. هناك العديد من الأمثلة، من المهرجانات الشعبية، إلى المؤتمرات السياسية، والمؤسسات الخيرية. وفي الآونة الأخيرة، وتحديداً يوم الثالث من شهر سبتمبر المنصرم، أطلقت منظمة اسمها "المواطَنة والتواصل"، هدفُها تعزيز الوعي بالمواطَنة والخدمة الاجتماعية، بوابةً تفاعليةً مصممةً لمساعدة المجتمع المدني في العمل عن كثب مع الجمعية التأسيسية (البرلمان التونسي) حول الوقت الذي بدأت فيه الجمعية اجتماعاتها الحالية. وقد شرحت الجمعية في بيان صحفي أن هذه البوابة تم إيجادها "لمتابعة مجريات اجتماعات الجمعية التأسيسية وحوار المجتمع المدني ونشاطات تذكر حول الدستور الجديد، حتى تخدم كبداية تفاعلية بين الجمعية التأسيسية والمجتمع المدني والرأي العام". المجتمع المدني هو الذي يشكل أعظم تقدم للثورة، ووجوده واحد من المكتسبات الأكثر أماناً في حقبة ما بعد الثورة. لم يعد بالإمكان أن تفتقر تونس لمجتمع مدني نشط. وبشكل عام فإن تونس تحتاج لمساهمة كافة القطاعات، بغض النظر عن عقيدتها. وحتى يتسنى تحقيق ديمقراطية حقيقية، يتوجب علينا أن نجد أرضية مشتركة بين جميع التونسيين، أي أن نسعى لإيجاد منبر يوفر للجميع فرصة المساهمة في تطوير الدولة، وفي الوقت نفسه احترام معتقدات الجميع وأفكارهم. ------- أكرم كعبي باحث تونسي شاب -------- ينشر بترتيب مع خدمة "كومون جراوند" الإخبارية