احتفلت مصر بالذكرى التاسعة والثلاثين لحرب أكتوبر، وهي بالنسبة لمصر وشعبها وتاريخها نقطة فاصلة استردت فيها الكرامة المهدورة إبان العدوان الإسرائيلي في 1967، وذلك بغض النظر عما جرى بعدها من توظيف سياسي لنتائج هذه الحرب، ولكن للحرب منظوراً آخر بالغ الأهمية وهو المنظور العربي. صحيح أن العبء الرئيسي في الحرب تحملته القوات المصرية والسورية إلا أن الإطار العربي الشامل كان له دوره الفاعل في الحرب على نحو لا يمكن إغفال أثره، وأول ما يمكن أن يذكر في هذا الصدد أن حرب أكتوبر كانت أول حرب مع إسرائيل ذات طابع عسكري عربي مخطط، فقد وُضِعَت لها خطة عسكرية مشتركة بين مصر وسوريا. وهكذا انطلقت القوات المصرية والسورية لتحقيق أهدافها في ساعة صفر واحدة، وعلى رغم أن الربط بين تقدم العمليات على الجبهتين المصرية والسورية قد أدى إلى نوع من الارتباك، وأفضى على الجبهة المصرية إلى قرارات غير مدروسة (تم تطوير هجوم القوات المصرية شرقاً في 12 أكتوبر لتخفيف الضغط على الجبهة السورية، وكان هذا خارجاً عن الخطة المصرية مما أدى إلى خسارة كبيرة في وقت قصير في صفوف القوات المدرعة المصرية بصفة خاصة)، إلا أن مجرى الحرب من وجهة النظر العربية قد استفاد دون شك من تشتيت المجهود الحربي للقوات الإسرائيلية على جبهتين. في كل الحروب العربية- الإسرائيلية السابقة كان العرب يتداعون إلى القتال دون خطة مسبقة توظف الجهد الحربي لقواتهم بطريقة منهجية، ولذلك كانت الهزيمة مآلهم. حدث هذا في حرب 1948 وعلى نطاق أضيق في 1967، ولكن العدوان الإسرائيلي- البريطاني- الفرنسي على مصر في 1956 يمكن استثناؤه مما سبق، إذ لم يشارك أي من قوات الدول العربية في صد العدوان عن مصر، وكان هذا برجاء خاص من عبدالناصر الذي كان يثق ثقة مطلقة في أن مصر قادرة وحدها على التعامل مع الحرب وتداعياتها وهو ما حدث بالفعل، إذ أُجبِرَت إسرائيل على الانسحاب من سيناء وقطاع غزة بعد أربعة أشهر فحسب من وقوع العدوان نتيجة عدد من العوامل الداخلية من بينها المقاومة الشعبية، والعربية التي تمثلت في الموقف العربي القوي تجاه العدوان، والدولية لأن القطبين الأكبر في النظام الدولي آنذاك وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي عارضا استمرار الاحتلال الإسرائيلي لسيناء وغزة حتى وإن كان لكلٍّ مصلحته الخاصة في موقف كهذا. ولكن حرب أكتوبر تميزت بالتخطيط المسبق بين اثنتين من أقوى الدول العربية عسكرياً -إن لم تكونا أقواها بالفعل- غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد حرص الرئيس المصري أنور السادات على أن يستطلع إمكانات الدول العربية في دعم المجهود الحربي المصري، وكانت النتيجة أن هناك من هذه الدول من شارك بقوات عسكرية على الجبهة المصرية (الجزائر والمغرب والسودان والكويت والعراق الذي شارك بسرب طائرات بطياريها)، وكانت هناك دول مشاركة بأسلحة كليبيا التي زودت مصر بعدد من طائرات الميراج، كذلك قدمت اليمن خدمات استراتيجية لمصر منحت بموجبها القطع البحرية المصرية التي نفذت حصار باب المندب تسهيلات عسكرية، وامتدت جهود السادات إلى دول النفط التي اتفق مع قادتها على استخدام سلاح النفط في المعركة، وقيل إن العاهل السعودي آنذاك -الملك فيصل بن عبدالعزيز- قد اشترط على الرئيس السادات أن تدوم الحرب بعض الوقت حتى لا يُهدَر سلاح النفط. هكذا سارت الحرب بعد كل هذا التنسيق بين القدرات العربية العسكرية والاقتصادية، فأبلت القوات المسلحة المصرية والعربية بلاءً حسناً، واستخدم الطيارون المصريون الطائرات الليبية مما دعم قدرة القتال الجوي المصري، ونفذ حصار باب المندب بنجاح كامل ليكون أول تجربة حصار بحري عربي لإسرائيل منذ نشأتها، ثم وقع استخدام سلاح النفط في توقيته السليم وبخطته الموفقة التي تضمنت حرمان الدول المناصرة لإسرائيل من النفط العربي (لاحظ أن الولايات المتحدة كانت دوماً على رأس هذه الدول)، وتخفيضاً للإنتاج بواقع 5 في المئة كل شهر على أن تزاد هذه النسبة تدريجياً، وكان الهدف من هذا الإجراء هو منع الدول التي ستحرم من إمدادات النفط العربي من الحصول على احتياجاتها من السوق الحرة للنفط، ووضعت الدول النفطية التي استخدمت هذا السلاح شرطاً لإلغاء العقوبات وإعادة الإنتاج إلى مستوياته الطبيعية وهو إزالة آثار عدوان 1967 بالكامل. اكتمل المنظور العربي لحرب أكتوبر، وأصبح نموذجاً يشير إلى قضية الأمن القومي العربي، فثمة تهديد مشترك يوحد الجميع، وعمل عربي جماعي فاعل في مواجهته، وهو ما يمثل رداً دامغاً على أولئك الذين يرون أنه لم يكن هناك أمن قومي عربي في أي وقت من الأوقات، غير أن المذهل أن تطورات ما بعد الحرب قد أهدرت هذا الإنجاز بالكامل، فقد توصلت القيادة المصرية في يناير1974 إلى اتفاقية فض الاشتباك الأولى مع إسرائيل، وبذل السادات جهوداً فائقة لكي يقنع الملك فيصل بالتوقف عن استخدام سلاح النفط، وهكذا نُحِيَ هدف إزالة آثار العدوان الذي مثل الغاية النهائية لاستخدام هذا السلاح، واستبدلت به خطوة تكتيكية مفروغ منها وهي اتفاقية فض الاشتباك الأولى بين مصر وإسرائيل، وفيما بعد وقع السادات اتفاقية فض الاشتباك الثانية في سبتمبر1975 التي وضعت نهاية لحالة الحرب بين مصر وإسرائيل، وأثارت من ثم ردود فعل عربية معترضة، ولم يكن هذا سوى "بروفة" صغيرة لزلزال زيارة السادات لإسرائيل في 1977، وهي الزيارة التي أفضت لاحقاً إلى معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية، فاشتعلت نيران المعارضة من قبل غالبية الدول العربية، واتخذت الإجراءات المعروفة ضد النظام المصري من قطع للعلاقات الدبلوماسية إلى نقل مقر الجامعة العربية ومنظماتها الموجودة في القاهرة. هكذا للأسف عدنا إلى نقطة الصفر في "الأمن القومي العربي" مفهوماً وخططاً وإجراءات وتنفيذاً فعلياً على أرض الواقع، فقد أصبح العرب للمرة الأولى غير متفقين على المصدر الخارجي لتهديد أمنهم طالما أن "دولة مصر" قد رأت أن التعايش مع إسرائيل ممكن فيما ترفضه غالبية الدول العربية. بل إن ما هو أسوأ من ذلك أن هذا النموذج قد تكرر بغزو العراق للكويت في 1990 حيث انقسمت الدول العربية للمرة الثانية بخصوص التهديد المشترك لأمنها ما بين مؤيد للرئيس العراقي السابق على نحو أو آخر ومعارض له، وتكرر الأمر حينما وقع الغزو الأميركي للعراق في 2003، حيث "توحدت" الدول العربية على أن تنأى بنفسها عما حدث للعراق ولا حتى على مستوى إصدار تصريحات وبيانات، ثم عادت المسألة بعد ثلاث سنوات في عدوان إسرائيل على جنوب لبنان في عام 2006، إذ انقسم العرب حول مسؤولية "حزب الله" عما وقع، وحدث الأمر نفسه في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة 2009/2008 الذي كرر العرب انقسامهم بشأنه حول مسؤولية "حماس" عما وقع، وكأن سجل إسرائيل خالٍ من أي شيء يدينها فيما فعلت. يضطر المرء في "ذكرى حرب أكتوبر العربية" أن يشير للأسف إلى أن المعنى الذي جسدته هذه الحرب قد تبخر من بين أيدينا الآن وفي هذه الظروف الصعبة، وليس ثمة أدنى محاولة في الأفق لاستدعائه بعد أن طال غيابه عن الساحة العربية لتسعة وثلاثين عاماً كاملة.