في إطار ندوة عنوانها "الإسلاميون ونظام الحكم: تجارب واتجاهات" التي ينظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات في الدوحة قدم الباحث المصري إبراهيم البيومي غانم ورقة بعنوان: "الإخوان وسلطويات الدولة الحديثة: حالة مصر في المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير". ويؤسس البيومي لورقته بترسيم نمطين من التحديات واجها "الإخوان" وربما بقية التيارات السياسية المصرية عشية سقوط النظام السابق وانتصار الثورة. النمط الأول تمثل في التنافس الشديد بين الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية التي أرادت أن ترث النظام وتحشد التأييد وراءها، والنمط الثاني، وهو الأهم برأي البيومي، تمثل في التحديات التي "تفرضها مجموعة متراكبة وموروثة ومتجذرة من «السلطويات» المضادة للتحول على طول الخط... و«السلطوية» في هذا السياق هي استخدام أساليب قهرية للاستئثار بالسلطة والنفوذ والثروة والمكانة الاجتماعية". ويستثير "النمط الثاني" في تحليل البيومي وقفة مطولة خاصة إثر تفصيله في أنواع تلك السلطويات وتصنيفه لسبعة أنماط منها، سنأتي على نقاشها أدناه. ولكن قبل ذلك من المهم التوقف بعض الشيء عند مفهومين آخرين يقدمهما البيومي مرتبطان جوهرياً بـ"المرحلة الانتقالية" التي تمر فيها مصر ويمر فيها "الإخوان" أيضاً. ويرى البيومي أن هذين المفهومين وهما "التأقيت" و"الاستثناء" ضروريان لكونهما مدخلين لفهم كثير من السلوك السياسي للإسلاميين و"الإخوان" في الوقت الراهن. و"التأقيت" يعني أن كثيراً من ذلك السلوك مرتبط بما هو "مؤقت" أي ظرفي التشكل وسمته المؤقتة لها علاقة بالزمن. أما "الاستثناء" فهو مكمل لذات الفكرة ويعني أن كثيراً من المواقف والتوجهات يمكن إدراجها في سياق استثنائي تفرضه المرحلة الانتقالية. وهذان المفهومان يعيدان إثارة المخاوف التقليدية التي يطرحها كثيرون من أن الإسلاميين يتبنون أجندة معلنة (مؤقتة واستثنائية) وأخرى غير معلنة (دائمة ومستديمة). وبعيداً عن تلك المخاوف من المهم الإشارة إلى أن النقطة المنهجية والمعرفية التي تغيب عن إدراك كثير من الإسلاميين والسياسيين أيضاً هي نظرتهم لكل مرحلة من مراحل التسيس الاجتماعي بكونها تنتمي لما هو "مؤقت واستثنائي" وأن الأمور والمواقف والأداء ستختلف (إيجابياً) في المرحلة التي تلي ما هو "مؤقت واستثنائي". وواقع البشر السياسي يقول إن السياسة والمجتمعات والحوادث التاريخية تظل تمور في سيرورات دائمة من التعرجات والمفاجآت والانعطافات الحادة التي توحي بأنها "استثنائية" على رغم أنها "دائمة". وبمعنى آخر إن ما يُرى على أنه "مؤقت واستثنائي" لأن هناك ظروفاً ومعطيات مختلفة تسم مرحلة ما، هو في الواقع جوهر وثابت السياسة الوحيد وهي التي لا تمر في "ظروف طبيعية". وباختصار فإن التغيير هو الثابت الوحيد في السياسة. وهذا ينقض الوهم الذي يطرحه كثير من الإسلاميين والسياسيين والمتمركز حول مقولة إن "الظروف المؤقتة والصعبة" لا تتيح لهم تقديم الأداء الذي يريدونه. وبالانتقال إلى السلطويات السبع التي يناقشها البيومي ويرى أنها تجمع في ما بينها التحديات الأهم التي تواجه "الإخوان" في مصر فهي كالآتي: "1) سلطوية الجماعة الحاكمة على عموم المحكومين، باسم الدولة وعبر بيروقراطيتها الرسمية. 2) سلطوية النخبة المتغربة على الجمهور العام، باسم المعرفة والتنوير والتقدمية. 3) سلطوية العسكر على المدنيين، باسم الذود عن الأرض والكرامة الوطنية. 4) سلطوية المترفين على الفقراء والعمال، باسم الريادة والكفاءة والتفوق. 5) سلطوية المدينة على القرية، باسم التفوق المادي والأدبي. 6) سلطوية الدولة العميقة على الدولة الرسمية، بلا اسم، وبلا عقلانية، فقط لضمان النفوذ وشبكة المصالح الخاصة. 7) سلطوية الخارج على الداخل، بحكم الأمر الواقع، ولأسباب كثيرة يتصل كل منها بطرف مع سلطوية أو أكثر من السلطويات السابقة". ومقاربة سلوك "الإخوان" السياسي بعد الثورة المصرية من منظور تحدي هذه السلطويات تقدم قراءة مهمة بالتأكيد ولكنها في نفس الوقت تختزل النقاش وأحياناً قد تصطنع تقابلية صارمة داخل كل "سلطوية" بين مكون قديم (ما قبل الثورة) وما يجب أن تكون عليه الأمور بعد الثورة. والواقع أن في كل بنية من البنيات المكونة للسلطويات التي يجتهد في تحليلها البيومي تعقيداً وتداخلاً يصعب تسطيحه إلى ثنائية شبه مانوية: خير وشر، إضافة إلى مؤشرات لـ"حكم قيمة" يستبطن تحليل البيومي. قد يتفق الجميع على تحدي سلطوية الديكتاتورية، حيث الأقلية تتحكم في الأغلبية وبشكل غير ديمقراطي، ولكن إلحاق ذلك بسلطوية النخبة الحداثوية التي يصفها البيومي بالمتغربة عن الجمهور هو أمر خلافي كبير. فتيار هذه النخبة الحداثية العريض والتاريخي الذي يعود في جذوره إلى رفاعة الطهطاوي وجيل الأفغاني وعبده ثم التفرع إلى جيل أحمد لطفي السيد وطه حسين ولويس عوض هو الذي انهمك حتى النخاع في مسألة التربية والتعليم وأنشأ الجامعات المصرية ورعى التطور الثقافي والاجتماعي في مصر وأنتج إشراقاتها الأهم في هذه المجالات في القرن العشرين. والأهم من ذلك أن تلك النخبة الحداثية في مصر، وفي غير ما بلد عربي، هي التي راكمت أرضية مفهومية وقيمية صلبة قائمة على أفكار ومبادئ الحرية والتعددية السياسية والانفتاح والديمقراطية وناضلت من أجلها، وكثير من نخبها سجن وتعرض للأذى بسبب ذلك. وفي العقود الذي كانت فيها هذه النخب تروج لقيم الحرية والديمقراطية كانت الأحزاب الدينية، "الإخوان"، ثم السلفيون في حقبة لاحقة، منهمكة في مشروع "الأسلمة" وبناء أحزاب وتنظيمات. وما أن أثمرت الدعوات الديمقراطية وقامت ثورات "الربيع العربي" حتى قفزت الأحزاب الإسلامية لاستغلال الهوامش التي هي نتيجة للمشروع الحداثي، وهي الأحزاب التي كانت قد استقوت لأسباب كثيرة، متعلقة بفشل الآخرين والحكومات أكثر من تقديمها لبرامج حقيقية. والسلطويات الأخرى تحتاج أيضاً لنقاشات معمقة ربما لا تتيحها هذه المساحة. فاختزال تقابليتي "المدينة والقرية" و"المترفين والفقراء" بشكل يحشر أو يختلق معركة وهمية ليس دقيقاً لأن ذلك يوحي بأن المدينة وطبقاتها الغنية واضحة المعالم في تميزها عن القرية والريف والفقراء. ونعرف أن شريحة عريضة من الطبقة الحاكمة التي تحولت إلى غنية ومترفة في وقت لاحق جاءت من الريف والطبقة الوسطى أصلاً مع ثورة 1952 يوليو التي قادها ضباط لا ينتمون إلى الطبقات الأرستقراطية والعليا في المجتمع المصري آنذاك. وخلال عقدين أو ثلاثة من السنين تطورت "طبقة الثورة" أو جزء كبير منها إلى "طبقة ثروة" وهي ذات أصول ريفية، وقد جسر كثير منها العلاقة بين المدينة والريف بما يضعف من التقابلية المذكورة في "السلطويتين" المذكورين.