هل أصبح الإسلام يهدد قيم الغرب الحداثية والتنويرية لأن موجة احتجاج اندلعت في بعض البلدان الإسلامية ضد الفيلم المسيء ورسوم الكاريكاتور المشينة التي نشرتها بعض الصحف الأوروبية؟ قرأنا للكاتب الفرنسي "ميشال أونفراي" قوله إن الإسلام "المناهض لكل قيم الحداثة والذوق الإنساني" أصبح يهدد نموذج الحياة الفرنسي، وقرأنا للكاتب الأميركي "دانيال بايبس" الموقف ذاته، في احتجاج صريح على ما اعتبراه تقييداً لحرية التعبير التي لا يمكن أن يعترضها مقدس ديني. إذا كان من الصحيح أن الفكر الغربي أزال القداسة عن النصوص الدينية منذ القرن الثامن عاشر وكرس حق نقد الديانات، بل والسخرية منها، وفي مقدمتها الدين المسيحي، الذي هو خلفية الانتماء الرئيسي في المجتمعات الغربية، فبأي حق يعطي للإسلام حصانة من النقد لا تتوفر لغيره من الديانات والمعتقدات؟ هذه "الحجة" تستخدم على نطاق واسع لتبرير الكتابات والتعبيرات العدائية للإسلام، التي لا تدخل في الواقع في حق التعبير الحر، بل في نمط من العنصرية الثقافية والدعاية للكراهية. فما لا يعرفه الكثيرون هو أن الإسلام تعامل في أوج انتشاره بتسامح كبير مع الكتابات النقدية المناوئة من منظور فكري. نكتفي بالإشارة إلى مثالين واضحين على هذه الحقيقة: أولهما:"يوحنا الدمشقي وهو رجل دين مسيحي مشهور وكاتب ومترجم عمل في البلاط الأموي، ومع ذلك نشر رسائل عديدة أراد فيها هدم الإسلام عقيدة وشريعة واعتبره "هرطقة زائفة"، ناشراً من منطلقاته المعادية للإسلام حواراً بين مسلم ومسيحي حول القضايا المحورية في الدين، ولم تخرج الكتابات الاستشراقية المناوئة للإسلام عن انتقاداته وشبهاته التي مضى عليها اثنا عشر قرناً. ثانيهما: الفيلسوف اليهودي "ابن ميمون" المسمى "موسى الثاني"، الذي عاش في قرطبة وفاس والقاهرة وعمل في البلاط الأيوبي، ومع ذلك كتب كتابه "دلالة الحائرين"، الذي يحتوي نقداً شرساً للإسلام ودفاعاً متحمساً عن اليهودية. كما أن الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية التي تضمن بعضها صورة شديدة السلبية عن الإسلام، قبلت وترجمت في العالم الإسلامي، ولم تثر أي مشاكل عامة، بل ظلت موضوع جدل ونقاش في الساحة العلمية. بدأت الحالة الاحتجاجية الجديدة في العالم الإسلامي ببروز ظاهرة "الإسلاموفوبيا العنصرية"، التي تمحورت في النصوص الروائية والتعبيرات الفنية وخطب الساسة المتطرفين في مرحلة عاصفة من تاريخ المنطقة ظهر فيها خطر التطرف الديني العنيف الذي استهدف البلدان العربية والإسلامية قبل وصوله لقلب العالم الغربي. وكما يبين الباحث الفرنسي "فنسان جيسر" في كتابه "الإسلاموفوبيا الجديدة" ما يميز الإسلاموفوبيا الراهنة عن النزعة العدائية السابقة، التي تبلورت في العصر الوسيط في "المدونة المسيحية الوسيطة"، هو أن خط الاتهام والخوف انتقل من اتهام الإسلام بالانحراف عن المعتقد السماوي الصحيح إلى اتهامه بالتناقض المبدئي والجذري مع قيم ونظم الحداثة ومعايير حقوق الإنسان. في الحالة الراهنة، ينظر للإسلام كديانة مغلقة وثقافة جامدة لا تاريخية، بالسكوت عن الجذور المشتركة بين الديانات التوحيدية، وبإغفال سمات التنوع والاختلاف الكثيفة داخل التقليد الإسلامي تراثاً وممارسة. ولا شك أن المسافة هنا ضئيلة بين النقد الموجه للدين والصورة السلبية للمجموعة المنتمية إليه التي هي في الواقع الإطار الموجه للمنظور التأويلي للنصوص الإسلامية. هذا الانزياح التأويلي الذي لا يمكن الدفاع عنه معرفياً هو نفسه الذي حاربه الغرب المعاصر إزاء النزعة العدائية للسامية بصفتها تحمل صورة عنصرية إقصائية لليهود لمحض انتمائهم العقدي والثقافي لليهودية على اختلافهم الواسع في التعبير الفكري والقيمي عن هذه الهوية الجامعة. فلا يقبل اليوم أن يستند أحد في الغرب للمقاطع والنصوص الكثيرة المبثوثة في العهد القديم حول الاصطفاء اليهودي والنظرة الدونية العدوانية لغير اليهود من أجل تبرير موقف سلبي عنصري إزاء اليهود، بل إن الاتجاه الغالب في الدراسات التأويلية هو تفسير هذه النصوص بطريقة رمزية تحولها إلى قيم إنسانية إيجابية (من أهم هذه المحاولات قراءات بول ريكور وإيمانويل لفيناس ...). تقلب الإسلاموفوبيا الجديدة هذا التوجه فتطمس النصوص التي تعلي من شأن التسامح والانفتاح والحوار وتسيء تأويل النصوص الأخرى التي تعبر عن سياقات ظرفية محددة، ولا يمكن إخراجها عن الأفق المرجعي العام للمنظومة العقدية والقيمية الإسلامية. والمعروف أن التشريعات الأوروبية التي تكفل حرية التعبير والنقد قد راعت هذا الجانب من النزعة العدائية للدين المفضي للكراهية والعنصرية، كما هو محدد في نظام العقوبات بأغلب دول القارة (ألمانيا والنمسا وفلندا واليونان...). وفي فرنسا لا يزال إقليم "الزاس – مورسل" يحتفظ بتشريع عقابي للتجديف وفاء لمعاهدة قديمة موقعة بين الإمبراطور "نابليون بونابرت" وبابا الكنيسة الكاثوليكية، وكان الرئيس السابق "ساركوزي" قد وعد في حملته الانتخابية الأخيرة بتعميم هذا النظام التشريعي إلى باقي الأقاليم الفرنسية. فمن المثير إذن أن يقابل مشروع الكتلة الإسلامية بوضع نص قانوني دولي يكفل حرمة الديانات بالنقمة والامتعاض، في حين لا يتجاوز الأمر تعميم التشريعات القائمة على الدين الإسلامي، في مرحلة تؤكد كل استطلاعات الرأي الصورة السلبية للإسلام والمسلمين في مختلف البلدان الغربية. ومن المفارقات الجلية أنه في الوقت الذي يتدعم اتجاه متنامي لتشريع الكتابة التاريخية التي يفترض أنها تدخل في باب الحريات الأكاديمية (بدءاً من تجريم الشك في جرائم الإبادة النازية وصولاً لجرائم الإبادة الأرمينية، بل والنص على الجانب الإيجابي من التجربة الاستعمارية في المناهج المدرسية)، يغدو الدفاع عن أخلاقيات وأدبيات المقاربة الدينية علامة على التطرف والانغلاق. لقد قامت العلمانية في الغرب - كما يبين أوليفييه روا- من أجل تنظيم حضور الدين في المجال العمومي، لكنها تحولت من نمط لتسيير العيش المشترك إلى عقيدة منافسة للدين ومناوئة له، لا تقبل إلا بخروجه من الحقل المرئي. ومن هنا التحدي الذي تطرحه حيوية الإسلام المعيش في مجتمعات انحسر فيها التدين العام.