حتى قبل وقت طويل على المناظرة الرئاسية الأخيرة بين رومني وأوباما كانت ملامح الانتخابات الرئاسية قد حُددت سلفاً، فعلى رغم ردود الفعل الهستيرية، وأحياناً السخيفة التي أبداها بعض المحللين، سواء من اليمين، أو اليسار، فإن النقاش نفسه بين المرشحين لم يضف الكثير إلى السباق الانتخابي، ولن يؤثر في نظرنا بشكل كبير على النتيجة النهائية للانتخابات الرئاسية. والحقيقة أن المناظرة الأخيرة كانت أشبه بمقابلة في كرة البيزبول بين فريقين يحظيان بتشجيع مناصريهما دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير المشجعين لمواقعهم وانتقالهم إلى الصف الآخر، وفيما عدا التعليقات المبالغ فيها للمحللين على المناظرة المتلفزة بين من اعتبرها نصراً مؤزراً لرومني وهزيمة مدوية لأوباما، يبقى النقاش في المجمل مملاً وخالياً من معطيات جوهرية قد تسهم في تغيير مسار الانتخابات وترجيح كفة أحد المرشحين على الآخر. وعلى غرار تدخل بيل كلينتون بكلمة مهمة ألقاها في مؤتمر الحزب الديمقراطي، واعتبرت دعماً أساسياً لمعنويات الحزب، فإن النقاط التي سجلها رومني في المناظرة الأخيرة ليست أيضاً أكثر من دعم معنوي للحزب الجمهوري المتخوف من مرشحه الفاقد للكاريزما. ولذا يمكن التعامل مع المناظرة على أنها غيرت قليلاً في المزاج العام، ولكنها بعيدة عن إحداث تحول في اللعبة السياسية والتأثير الحاسم على نتيجة الانتخابات وتوجهات الأميركيين المحددة سلفاً. وبدلاً من التركيز المفرط على تحليل المناظرة يجدر بنا الانصراف أكثر إلى العوامل العديدة المؤثرة فعلياً في المشهد السياسي خلال عام 2012. ولعل أول تلك العوامل المهمة، هو البعد الديموغرافي للكتلة الناخبة في الولايات المتحدة، فعلى الجانب الديمقراطي هناك صعود لافت لأصوات الأقليات وتنامي نفوذ الناخبين من تلك الشريحة في الحياة السياسية، إذ قبل عقدين من الزمن لم تشكل هذه الشريحة أكثر من 20 في المئة من نسبة الناخبين فيما تناهز نسبتها اليوم 29 في المئة. وتشير التقديرات إلى أن 80 في المئة من أصوات الأقليات ستذهب إلى أوباما. وتضاف إلى هذه المجموعة فئة أخرى تتشكل أساساً من الناخبين الشباب والمتعلمين، فضلاً عن النساء المهنيات، أي تلك الفئة التي يطلق عليها "الطبقة المبتكرة". أما على الجانب الجمهوري فيتألف جوهر الائتلاف الداعم له من البيض ممن هم في أواسط العمر أو أكبر، هذا بالإضافة إلى تلك الشريحة التي تصف نفسها عادة بالمسيحيين الجدد، وهي الفئة كانت الأساس الذي انبثقت منها حركة "حفل الشاي" والتأثير الذي مارسته على الحياة السياسية. فبعدما نجحت الحركة في استعراض عضلاتها في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في عام 2010 حين ساعدت الجمهوريين على استرجاع الأغلبية، ساهمت أيضاً في التأثير على التوجهات الانتخابية داخل الحزب الجمهوري نفسه، وتحديد مسار المرشحين في حملة 2012، حيث تمت تنحية المرشحين الجمهوريين الأكثر اعتدالاً الذين دخلوا الانتخابات التمهيدية للحزب مقابل تعزيز آخرين أكثر تشدداً، وذلك مخافة إغضاب الحركة. ولو أن رومني تلفظ ببعض التصريحات التي أدلى بها في المناظرة الرئاسية الأولى خلال ترشحه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري لكان أقصي سلفاً منذ فترة لاعتداله في بعض القضايا. أما العاملان الآخران اللذان حددا المشهد الانتخابي الأميركي في السنة الجارية فكانا قراري المحكمة العليا، الأول بشأن تمويل الحملات الانتخابية الذي أقرته المحكمة، ما سمح لبضع شركات كبرى باحتكار عملية الترويج والإعلان ودعم المرشحين كلاً حسب مصالحه. والثاني تمثل في قرار المحكمة بتأكيد نظام الرعاية الصحية الذي أطلقه أوباما في وقت سابق، الأمر الذي أخرج موضوع قانون الرعاية الصحية المثير للجدل من دائرة النقاش وجعله واقعاً لا يجدي الطعن فيه. وعلاوة على ذلك، يمكن أيضاً الإشارة إلى عوامل أخرى أكثر تأثيراً في خيارات الناخبين الأميركيين من المناظرة الرئاسية مثل شعور الأميركيين من أصول لاتينية بإحباط شديد بسبب فشل إدارة أوباما في تمرير قانون هجرة جديد. وعلى رغم أن البيت الأبيض تحجج بمعارضة الكونجرس للقانون، إلا أنه سعى للالتفاف على المعارضة الجمهورية من خلال التحرك منفرداً والسماح ببقاء الأطفال الذين قدموا إلى الولايات المتحدة حتى سن متقدمة دون ترحليهم إلى بلدانهم الأصلية، وهذه الخطوة التي أثارت في البداية انتقادات الجمهوريين عززت حظوظ أوباما لدى الناخبين اللاتين وعبأت أصواتهم لمصلحته، وهو ما دفع الجمهوريين بدورهم إلى الكف عن انتقاد أوباما. بل إن رومني نفسه صرح في المناظرة الأخيرة بأنه سيحافظ على مكاسب تلك الفئة، وبأنه لن يلغي خطوة أوباما في هذا السياق. والأمر نفسه ينطبق أيضاً على موقف أوباما من المثلية الجنسية، فقد قرر إنهاء سياسة التعتيم حول هذا الموضوع التي كانت سائدة في صفوف الجيش الأميركي، كما اعترف وإن متأخراً بـ"حق المثليين في الزواج"، والسبب لا يتعلق فقط بإدراك حقوق شريحة من الناس، بل أيضاً لاستمالة الأصوات الليبرالية التي تعاملت مع الموضوع كاختبار لأوباما وقيمه الديمقراطية. هذه إذن بعض العوامل التي ساهمت في بلورة النقاش السياسي العام خلال السنة الانتخابية الجارية وأثرت على توجهات الناخبين، ولا يمكن التعامل مع المناظرة الرئاسية الأولى التي حظيت باهتمام إعلامي واسع على أنها أحد تلك العوامل المؤثرة والفعالة، فكما أن خطاب الرئيس السابق كلينتون أمام مؤتمر الحزب الديمقراطي ساهم في إيقاد حماس القاعدة الحزبية الموجودة أصلاً ودعم معنوياتها، فإن ما حققه رومني من تقدم في المناظرة الأخيرة لا يعدو كونه تعبئة لأنصار الجمهوريين القدامى، ولكنني أشك في أن يسهم الحدثان في تغيير المعادلة الانتخابية، أو أن يقنعا أنصار أي من الحزبين بالانتقال إلى الطرف الآخر.