تمت أول ترجمة كاملة لكتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" إلى اللغة اليابانية كما ذكرنا سنة 1924. وكان المترجم "ياسو سنكو" (Yasue Senko (1950-1888 الذي استخدم اسماً مستعاراً هو "ياسو نور يهيرو". وقد ظهر الكتاب بعنوان "في أعقاب الثورة العالمية". كان "ياسو" عضواً في البعثة الأولى من الطلبة الذين أرسلهم الجيش لدراسة اللغة الروسية في "مدرسة طوكيو للغات الأجنبية". وقد خدم ما بين 1918 - 1920 في قيادة الجيش الخامس في سيبيريا. وفي عام 1921 تم إرساله إلى فلسطين لبحث المسألة اليهودية، ثم تولى مسؤولية رفيعة في الاستخبارات عام 1938، وكان خلال الحرب العالمية الثانية أرفع خبير ضمن الجيش الياباني في القضايا اليهودية. كان في مقدمة من تأثر بقراءة ترجمة البروتوكولات "ساكاي كاتسويا" 1939- 1870، الذي كان قد أرسل إلى سيبيريا خلال الاجتياح الياباني كمترجم للغة الروسية. كان ساكاي مسيحياً قد تخرج من كلية شمالي اليابان وسافر إلى الولايات المتحدة سنة 1898، حيث درس في إحدى المعاهد الدينية المسيحية The Moody Bible Instiuute، وخدم لدى عودته سنة 1902 في الجيش الياباني، حيث شارك في الحروب الروسية- اليابانية 1904 - 1905، حيث طور بعض المهارة في اللغة الروسية. وبعد انتهاء الحرب بدأ ساكاي عمله عام 1906 كقس مسيحي، حيث أسس جمعية دينية. غير أنه بدأ يتعصب تدريجياً للمشاعر الوطنية والقومية اليابانية. وكان "ساكاي" أول أمره متعاطفاً مع الولايات المتحدة وقيمها الديمقراطية ومعادياً للحرب أو من دعاة السلام. إلا أن كتاباته بدأت تنحى بعد تجربته في سيبيريا، باتجاه التشدد "اليميني" المحافظ. ففي سنة 1924 أصدر ثلاثة كتب بعنوان "الخطة اليهودية لقهر العالم"، "المؤامرة اليهودية الكبرى"، و"اليهود وحقيقة العالم". وكان الخطر اليهودي في اعتقاده وراء كل الأيديولوجيات التي تهدد الامبراطورية اليابانية، "من الشيوعية الحمراء البلشفية إلى الديمقراطية البيضاء"، بل ما من مواطن موال للامبراطور ينبغي أن يلوث فاه باستخدام كلمات من قبيل "حق الانتخاب العام"، "حق الانتخاب للمرأة"، وغيرها من الشعارات الرائجة. "ليس إعطاء حق الانتخاب العام للناس سوى الخطوة الأولى نحو النظام الجمهوري"؟ غير أن عداء "ساكاي" السافر لليهود تناقض بشكل عجيب مع تعاطفه مع الصهيونية، وعودة اليهود إلى جبل صهيون أعلى تلال "أورشليم" التي يقول الكتاب المقدس إن "داود" بنى بيت حكمه وقلعته فوقه! وكان حماسه لعودة اليهود إلى فلسطين من القوة، ما جعله يطلب قرضاً بمبلغ 2000 جنيه من المنظمة الصهيونية الإنجليزية بضمان عواطفه الصهيونية. بنى "ساكاي" تعاطفه مع الصهيونية على فهم عجيب لنصوص الكتاب المقدس. وكان يحاول على الدوام تأويلها لاكتشاف روابط غامضة بين اليابان واليهود. "وهكذا فأنا مقتنع أن اليابان امتداد لمملكة النبي داود". وأضاف: "إنني أؤمن أن اليابان الإمبراطورية كانت مملكة داود. وأن مملكة إسرائيل التي ربطت سلالة آدم أبي البشر جميعاً لخمسة وخمسين جيلاً عبر 4300 سنة، أسست بنفس القرار الرباني الذي أوجد اليابان". لماذا إذن بقيت هوية اليابان اليهودية مخفية طوال هذه القرون؟ إذا عدنا للبروتوكولات، يقول "ساكاي"، عرفنا أن هذا كان خطة إلهية كي تتاح لليهود سراً فرصة ترسيخ قوتهم عبر العالم". كما أن النفوذ اليهودي، أضاف، لم يضعف يوماً بسبب هذه السرية. لقد كان اليابانيون شعب الله المختار "الأصلي"، أما اليهود، فقد انحدروا من الشعب الياباني. ولقد نصر الله الصهيونية، يقول، بسبب ارتباطها باليابان. لقد نقل الرب مملكته إلى اليابان، فتأسست الامبراطورية في نفس الوقت الذي انهارت فيه مملكة إسرائيل. "إن النصف الأول من تاريخ إسرائيل معروف بينما النصف الثاني مجهول، أما اليابان فإن تاريخها الحديث مثير للدهشة، بينما ضاع تاريخها المبكر. وباتحادنا نعيد بناء أمة عظمى تمتد من الماضي إلى الحاضر وتستمر في المستقبل، وتوحد التاريخ من الألف إلى الياء". وهكذا، ينبغي الترحيب بعودة اليهود إلى فلسطين، لأن في ذلك تحقيق لنبوءة قيام "مملكة صهيوني" اليهودية- اليابانية! ومن الغرابة بمكان أن تعاطف "ساكاي" مع الصهيونية وإيمانه بأصل اليابان المشترك مع اليهود، لم يخفف إلا قليلاً من تشهيره بالقوة اليهودية وأهداف مخططاتها، ربما لاعتقاده بأن اليهود يجهلون رسالتهم المشتركة مع اليابانيين. فبالرغم من القرابة التي تربط الشعبين، شكل اليهود في ذهن ساكاي خطراً محدقاً يهدد سلامة البلاد! وكتب في بعض مؤلفاته: "العالم اليوم ميدان معركة. اليابان عرضه اليوم لمخاطر خارجية شرسة واضطرابات في الداخل، ما ينبغي أن نخشاه كثيراً ليست قذائف المدافع، بل الانحرافات العقائدية، المؤامرات لا السفن الحربية. إنني كاليهود، من مؤيدي إعادة تأسيس حكم الله ودولة إسرائيل الصهيونية. ولكنني لا أتمنى أن تنجح مؤامراتهم في أي مكان باليابان لأنها ستلوث أرض امبراطوريتنا". واعتبر كل الأفكار الليبرالية التي ازدهرت في اليابان خلال العشرينيات فيما سمي بـ"ديمقراطية تايشو"، مجرد مظاهر للخطر اليهودي الزاحف. كانت "ديمقراطية تايشو" Taisho، هذه، الهدوء الذي يسبق العاصفة! إذ كانت اليابان قد خرجت منتصرة في الحرب العالمية الأولى، "فازداد تماسك حكامها بالقومية اليابانية المتطرفة على غرار الدول الفاشية والنازية والتوتاليتارية في أوروبا إبان مرحلة ما بين الحربين العالميتين. واستخدمت المقولات الدالة على "فرادة" المجتمع الياباني، وخصوصية اليابان المتميزة لتسيطر على أجزاء واسعة من منطقة جنوب شرقي آسيا. كانت الاستعدادات العسكرية للجيش الياباني تؤكد ولادة نزعة قومية يابانية متشددة ضد دول الجوار، بعد تحول اليابان إلى دولة قوية تمتلك أحدث الأسلحة.. وكان الامبراطور "تايشو" شاباً في الثلاثة والثلاثين من عمره حين تولى الحكم، لكنه كان مريضاً، لا بل وصفه بعض المؤرخين بأنه لم يكن متوازناً عقلياً. وتميز عهده بقيام تحالف وثيق بين كبار القادة من العسكريين، والبيروقراطيين، وزعماء الأحزاب الجديدة.. ووصفت تلك المرحلة باسم "ديمقراطية تايشو". لكنها في حقيقة الأمر، كانت تعبر عن غياب السلطة المركزية التي كان يتمتع بها والده الامبراطور "ميجي"، بعد أن ظهرت قيادة جماعية تمارس السلطة باسم الامبراطور. ونظراً إلى اعتلال صحته بشكل مقلق في السنوات الأخيرة من عمره، تخوف ابنه، ولي العهد هيرو هيتو، من ضياع حكم الأباطرة مجدداً، فبدأ يمارس بعض صلاحيات والده من عام 1921 حتى عام 1926، حيث تولى الحكم رسمياً بعد وفاة والده". وقد برزت في هذه المرحلة مدارس فلسفية وأدبية من بينها الماركسية، ولكن الأفكار الاشتراكية والماركسية اعتبرت معادية للامبراطور وبالتالي ماسة بالولاء الوطني. وهكذا بقيت مثل هذه الأفكار والمبادئ مؤثرة في بعض التحليلات الاقتصادية وتفسير التاريخ. كما ازدهرت المرحلة بالعديد من التيارات النسائية التي لم تبد ضمن الأطر التقليدية للحركة النسائية. وهذا أثار الرعب في قلب "ساكاي"، ورأى فيها الأصابع اليهودية التي تحرك وتروج كل هذه الأفكار والعقائد. وآمن بأن أي تصالح بين اليابانيين واليهود لابد أن يسبقه مسح أو إزالة هذه "الأفكار اليهودية" وتطهير المجتمع الياباني منها، وحذر قائلاً: "بما أن اليهود يعتبروننا أعداء لهم فيلكن! سندافع عن أمتنا ضد أعدائها كي لا يضيع مستقبلها. ومن هنا أبادر إلى تحذير كل المواطنين اليابانيين أنه طالما تُرضي اليابان نفسها بتقبل فضلات الغرب وعقائد الغرب، سيحتقر اليهود مملكتنا، ويعاملونها بنفس الاستصغار الذي يعاملون به ممالك الغرب. فمهمتي الملحة إذن، أن أدعو شعب هذه الأمة لاعتبار اليهود أعداء لهم، وتحذيرها من الوقوع ضحايا لمخططاتها. وإذا نجحنا في إجبار اليهود على التراجع، سنشرح لهم الأصل السماوي لمملكة اليابان، ونستطيع آنذاك أن نتعاون معهم في تعميم الحكم الإلهي على وجه المعمورة". ولكي يوثق "ساكاي" هذه الروابط الغامضة التي كان يؤمن بوجودها سراً بين اليابانيين واليهود، عمد إلى تأسيس جمعية لا يقل اسمها غرابة عن هذه العلاقة المزعومة، "جمعية يهودية اليابان" أو باليابانية Nichiyu Kyo-Kai. غير أن هذه الجمعية لم تر النور إلا عام 1932. وفي هذه الأثناء سافر ساكاي إلى فلسطين، برفقة "ياسو نور يهيرو"، مترجم كتاب البروتوكولات، للبحث والاستقصاء في بعض المسائل اليهودية. وفي عام 1936، أسس ساكاي منظمة أخرى باسم "اليابان الغامضة"Mystical Japan أو Shinoi-no-Nipponsho، باتت تصدر مجلة بالاسم نفسه. وفي هذه المجلة كان ساكاي يؤكد على الدوام قدسية اليابان ورسالتها السماوية المكرسة لإقامة حكم ووصاية إمبراطور اليابان على سائر الأرض، كما باشر طباعة العديد من الكتيبات والمنشورات التي تتضمن هذه الأفكار. كانت الصورة التي رسمها ساكاي لليهود تتويجاً لتراكمات سابقة بدأت قبل أكثر من قرن. صورة مزجت عدة عناصر: خوف ونفور اليابانيين المعروف من الأجانب، العقائد المسيحية، ونظرية المؤامرة اليهودية الكبرى ضد العالم، والتي تشرحها بروتوكولات حكماء صهيون. وهي الصورة نفسها التي استخدمتها اليابان في دعايتها ومنشوراتها خلال الحرب العالمية الثانية.