يرى كارلو باستاسين، عالم الاقتصاد الإيطالي والزميل غير المقيم لدراسات السياسات الخارجية والاقتصاد العالمي بمعهد بروكنجز، في كتابه الذي نعرضه هنا، "إنقاذ أوروبا... كيف دمرت السياسات القومية اليورو تقريباً"، إن الزعماء الأوروبيين قد سمحوا لنوازعهم القومية أن تطغى على المصالح المشتركة للقارة، من دون أن يدركوا أن خلاص دولهم جميعاً مما تعاني مشكلات مختلفة يتمثل في إبقاء أوروبا ومنظومة اليورو في حالة اتحاد وتماسك. والفرضية التي يطرحها المؤلف، ويحاول التدليل عليها في الكتاب، هي أن التمحور حول الذات القومية لكل دولة من الدول الـ17 المكونة لمنظومة اليورو، قد عرضت للخطر أحد أهم المشروعات السياسية والاقتصادية في العالم، وأكثرها طموحاً. ويرى المؤلف أن التكامل السياسي والاقتصادي السريع والعميق معاً هو وحده الذي يمكن أن ينقذ القارة من المصير الذي يتهددها. ويقول في هذا السياق إنه "إذا ما كانت الأزمة الأوروبية الحالية تحمل في طياتها إمكانية أن تكون أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ القارة بأكمله. فإنها في رأيي تحمل أيضاً إمكانية أن تكون أفضل أزمة سياسية في تاريخها كذلك". ومستقبل التجربة الأوروبية -بحسب"باستاسين"- مهم ليس فقط لعدد سكان منطقة اليورو البالغ 500 مليون نسمة، وإنما أيضاً لجميع هؤلاء الذين يؤمنون بالتعاون الدولي كوسيلة للحد من غلواء قوى العولمة المتوحشة. بيد أن المفارقة القاسية التي تواجه اليورو، والتي لم يتطرق إليها المؤلف في كتابه إلا لماماً، هي أن المسار الاقتصادي الرشيد الوحيد الذي يمكن من خلاله إنقاذ منظومة اليورو قد يقترن في الآن ذاته بتكاليف سياسية باهظة يمكن أن تصل ببعض ساسة دول المنطقة إلى مرحلة الانتحار السياسي أحياناً. فرغم أن المؤلف ربما يكون على حق عندما يقول إن خضوع الساسة في دول منطقة اليورو للرغبات الشعبية، هو ما أدى إلى مفاقمة الأزمة التي تواجهها، إلا أن تلك الرغبات والنزعات الشعبية التي يستجيب لها الساسة، لا يمكن تجاهلها، أو افتراض عدم وجودها لأن ذلك سيكون مثل من يقول إن الطعام هو السبب الأساسي لظاهرة السمنة، وإن العلاج الوحيد هو الامتناع عن الطعام! ورغم أن المؤلف يقر بوجود مشكلة الشرعية السياسية فإنه لا يقدم اقتراحات للحل أكثر من قوله "إن البعد السياسي في منظومة اليورو يبدو لا غنى عنه". وإذا ما أخذنا في الحسبان المعاناة السياسية التي عاناها الاتحاد الأوروبي من أجل تمرير معاهدة لشبونة (التي سعت إلى إصلاح مؤسسات الاتحاد وعملية اتخاذ القرار فيه، وكان يفترض أن تقوم بوظيفة الدستور)، فإن المرء لابد أن يتساءل: كيف يمكن لحكومات منطقة اليورو إقناع ناخبيها بأهمية التحرك سريعاً نحو تحقيق اتحاد مالي كامل يشمل عملية تحويل جذرية للسلطات الوطنية إلى بروكسل؟ ويبين المؤلف كيف أن مؤسسات منطقة اليورو قد اضطرت إلى اللجوء إلى منطق الإملاءات والأوامر لتنفيذ سياساتها في ضوء عدم قدرة الزعماء المحليين للدول الأعضاء على العمل الموحد. ومن أمثلة ذلك أن البنك المركزي الأوروبي قد أرسل رسالة للحكومة الإيطالية في أغسطس 2011 يصر فيها على ضرورة اتخاذ تلك الحكومة لإجراءات مالية صارمة. ويشير المؤلف في هذا السياق إلى انزعاج الحكومة الإيطالية من ذلك، وكيف أن "جوليو تريمونتي"، الذي كان وزيراً للمالية في حينه، قال إنه قد تلقى رسالتين تهديدتين في ذلك الوقت؛ واحدة من الإرهابيين، والثانية من البنك المركزي الأوروبي، وإن الثانية حملت وعيداً يفوق ما حملته الأولى. ورغم بعض الهنات التي احتوى عليها الكتاب، فإن المؤلف يقدم مع ذلك تحليلاً دقيقاً لطبيعة الأزمة الأوروبية، وأصول عوامل القصور التي انطوى عليها "إجماع فرانكفورت"، وهو يرى أن الألمان كانوا كثيراًٍ ما يشتكون من الأعباء التي يتحملونها في إطار مجموعة اليورو متناسين الفوائد الضخمة التي عادت عليهم من إنشاء منظومة نقدية موحدة؛ كما يرى أنهم أخفقوا في فهم أساب المشكلات الحالية التي تعانيها المنطقة. فمن وجهة نظره أن الإسراف والبذخ الإنفاقي ليسا السبب في الأزمة الحالية، كما يذهب إلى ذلك الكثيرون وعلى رأسهم الألمان، لأن بعض الدول الأكثر معاناة من المشكلات المالية والاقتصادية في منظومة اليورو لم تكن مسرفة في الإنفاق بدليل، أن دولةً مثل إيرلندا على سبيل المثال حققت الميزانية العامة فيها فائضاً خلال عشرة أعوام من الأعوام الـ11 التي سبقت الأزمة. ومع ذلك يثني المؤلف على ألمانيا باعتبارها الدولة الوحيدة في منظومة اليورو التي أجرت حواراً ناضجاً ورشيداً حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، ويقول إنه على رغم حقيقة أن المحكمة الدستورية الألمانية تلعب دور الكابح على الميول التكاملية للساسة الألمان، فإن هؤلاء الساسة أثبتوا في العديد من المرات أنهم أكثر إيماناً بالفيدرالية الأوروبية من بقية زعماء دول القارة. ويخلص المؤلف في نهاية كتابه إلى أن التحدي الكبير الذي تواجهه دول منطقة اليورو هو كيفية التوفيق بين الحاجة لتحقيق مزيد من الاندماج من جهة، ومواجهة الأزمات المالية والاقتصادية الملحة التي تعانيها دولها في الوقت الراهن من جهة ثانية. سعيد كامل ------- الكتاب: إنقاذ أوروبا... كيف دمرت السياسات القومية اليورو تقريباً المؤلف: كارلو باستاسين الناشر: بروكينجز بابليشنج برس تاريخ النشر: 2012