بلغ حصاد خريف "الربيع العربي" إلى الآن قرابة تريليون دولار في الدول التي تأثرت بـ"الربيع"، ففي سوريا وحدها يكلف النزاع مليار يورو شهرياً، ولم تجن اخضراراً، بل اصفراراً وتصفيراً في اقتصاداتها الضعيفة من قبل، فكيف بواقع الحال؟! وفي خضم هذا الواقع المتردي هناك من يريد نقل هذا "الخريف" إلى دول الخليج، التي تدعم الأمن والاستقرار في كل مكان من هذا العالم المترامي الأطراف. ومن هؤلاء أصحاب التيارات المؤدلجة والمشحونة بالحماس غير المنضبط، ومن يسمون أنفسهم بـ"الثوار". هذه الحصيلة المرفوضة خليجياً تصديرها أو استيرادها إلى منطقة لها خصوصياتها الواضحة، مقارنة بكل الدول التي جرى عليها التغيير، سواء ما يتعلق بأنظمة الحكم فيها أو الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تضع الفرد في صلب العملية التنموية في المجتمع، فالتراضي الشعبي هو لغة الحكم فيها والعدالة في توزيع الثروات هي أساس السيادة، والمساواة الاجتماعية هي في النسيج الاجتماعي المتساوق، وهو من صلب البنيان الاجتماعي المتلاحم. في الخليج، القيادة لا تعيش في برج عاجي مفصول عن الشعب واحتياجاته التي تلبى وفقاً لخطط مرسومة لسنوات طوال، الجميع يغرف منها ويعرف تفاصيلها التنفيذية، وتقف الأوامر السيادية داعماً لها ومحفزاً للاستمرار في عدم التأخر عن تحقيق طموحات المواطن في بلده. نأتي الآن إلى الطرف الذي جعل شعاره "الشعب يريد تغيير النظام" لقد ظن أنه بتغيير النظام فوراً ستحقق سيل الأحلام ولم يخطر بباله بأنه أثناء عملية إعادة النظام إلى نصابه قد يصطدم الواقع الجديد بتلك الأحلام التي لم تعمل حساباً لمقولة إن الثورات تأكل أبناءها أولاً، ولو كان من بعد ذلك الطوفان. إن وضع الدول العربية والخليجية منها، في سلة واحدة فقط، لأن هناك بعض الأنظمة انتهت صلاحية بقائها لأسباب خاصة تتعلق بأوضاعها الداخلية، فهذا لا يعني سحب تلك الأوضاع غير المستقرة على دول الخليج لأنها لم تقد شعوبها بذات الطريقة التي نرى صورها المفجعة في أكثر من دولة لم تستقر بعد على حال مُرض لا لشعوبها، ولا لمن أراد أن يستلهم منها درساً أكثر فائدة مما كانت عليه الأحوال قبل هذه التحولات التي لم تحقق إلا هدفاً واحداً، وهو إزالة أنظمة كانت معالمها واضحة إلى أخرى هلامية يطغى عليها اللون الرمادي الذي يثير غبار القلق أكثر من ضمان الأمن والاستقرار، وإن تلبست بلبوس الديمقراطية التي قد تنقلب إلى ديكتاتورية من نوع آخر. فالحفاظ على الخليج كساحة أمان واستقرار هو الذي يعين الآخرين الذين اضطربت أحوالهم للعودة إلى البر الآمن، أما أن يقف بعضهم متفرجاً ومتمنياً أن تصل الآثار السلبية لتلك التغييرات إلى دول الخليج، فهذا ما لا يجوز السماح بحدوثه، خاصة إذا كانت دول الخليج كلها عوناً لكل الأشقاء والأصدقاء في الرخاء قبل الشدة، وفي السعة قبل الضيق. وما نرى اليوم من حولنا من تغييرات، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي، يجب أن يصب في مصلحة الجميع، وهذا لا يمكن أن يقع إلا إذا تم الاتفاق على دعم كل خطوة تساعد على الحفاظ على السلم الداخلي والإقليمي والعالمي في آن واحد، لأن هذا المطلب كل لا يتجزأ ويصعب فصل المستويات الثلاثة لهذا السلم بعضها عن بعض بسبب تداخل آثارها، لذا فإن الخليج يجب أن يبقى استراتيجياً "مِحْملاً" و"مُحمَّلاً" بالخير لمصلحة الأمة العربية والإسلامية.