ما يطرأ على "البيئة" من كوارث طبيعية بحتة، أو بفعل تدخل البشر، فرض نفسه على العلاقات الدولية، في شقيها الذي يدور حول "الصراع" و"التعاون" وكذلك "التباعد" و"التكامل"، حتى بات مبحثاً أصيلاً منها، تتجاذبه عقول الباحثين في مشارق الأرض ومغاربها، وتنعقد حوله المؤتمرات والندوات، وترسم حوله "استراتيجيات" دولية، تتناوله إما منفرداً، أو في سياق حوار دولي أوسع حول علاقة الشمال بالجنوب، و"فائض القيمة التاريخي"، و"حدود القوة" في النظام الدولي، وكل ما يمت بصلة إلى "العولمة" بمختلف تجلياتها، وأشكال وجودها، وحالات التفاعل معها، قدحاً ومدحاً، وحدود تأثيرها في الزمان والمكان، وكذلك مسألة "الإرث الإنساني المشترك"، أو "الممتلكات العالمية المشاعة"، وهي الموارد التي يتاح استخدامها للمجتمع الدولي، والتي لا تخضع للسلطة القانونية لأي دولة، كالمحيطات والجو وقيعان البحار العميقة. والكوارث البيئية المصطنعة والطبيعية في خاتمة المطاف، قضية سياسية، إن أدت إلى توتر أو تفاهم بين دولتين، أو عدة دول، وقد يتطور النزاع حولها إلى صدام مسلح، يفتح قضية البيئة على الجوانب العسكرية. كما أن للبيئة "ثمناً" اقتصادياً، لارتباطها المباشر بقضايا التصنيع والصيد والزراعة واستصلاح الأراضي، والتنمية المستدامة، أو المستمرة. ومثل هذا الوضع أنتج ثلاث مسائل رئيسة: أ ـ ما فرضته البيئة من تحديات مهمة لنظرية العلاقات الدولية، في وقت احتلت فيه قضايا البيئة موقعاً متقدماً على جدول الأعمال الدولي لجيل كامل من الزعماء السياسيين، والمسؤولين وصناع القرار، ورجال الصناعة ومهندسيها، والعلماء بمختلف تخصصاتهم، والمواطنين الغيورين على صحة الإنسان، وثراء الطبيعة. ب ـ ما جرى من توزع الجدل العلمي حول البيئة على مختلف نظريات العلاقات الدولية. فالعلماء الذين عكفوا على دراسة هذا الأمر كانوا مختلفي المشارب والاتجاهات، واستغل كل منهم تعقد هذا الموضوع وتشعبه، ليجذب القضية إلى المساحة النظرية التي يقف عليها، مستخدماً العديد من الأدلة التي تدعم وجهة نظره، سواء كان من أصحاب النظرية "الواقعية" أم "الواقعية الجديدة"، أم "التعددية" أم "المؤسساتية الليبرالية" أم "البنيوية"، أم "الماركسية الجديدة"، أم ممن يطالبون بالمساواة بين الجنسين. ج ـ وجود همزات وصل بين البشري والطبيعي في الكوارث، بل إن العلاقة بين الاثنين تصل إلى حد السببية في بعض الظواهر. فبعض العلماء يرى مثلًا أن إعصار كارتينا الذي ضرب الولايات المتحدة الأميركية نجم عن ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية، من جهة، وعن عدم مطابقة تخطيط مدينة نيوأورلينز، التي اجتاحها الإعصار، لشروط حماية البيئة، من زاوية تجفيف معظم الأرض الرطبة التي تحيط بالمدينة، والتي كان من شأنها أن تمتص جزءاً كبيراً من مياه الفيضان. وهذه حالة من حالات الاستخدام البشري الجائر للطبيعة، الذي يخل بالتوازن البيئي والأيكولوجي، وقد دفع مؤتمر للأمم المتحدة عقد بجنيف عام 2004 إلى أن يربط بين تغير مناخ الكرة الأرضية والتحول الحضري السريع في دول كثيرة وبين الكوارث الطبيعية، ويبرهن على ذلك بلغة الأرقام. فحتى عام 1990 شهد العالم 261 كارثة طبيعية، نكب بها نحو 90 مليون شخص. وفي 13 عاماً فقط، تراوحت بين 1990 و 2003، وقعت 76 كارثة أضرت 164 مليون شخص. وأنسنة العلاقات الدولية تبدو مسألة "طوباوية" في ظل علاقات دولية تجنح إلى التنافس والصراع أكثر مما تميل إلى التعاون والتكامل، لكن لا ينبغي أبداً التخلي عن هذه الرؤية المثالية والكفاح من أجل تحقيقها، أو على الأقل الحد من غلواء الصراع، ودفع العالم إلى شريعة الغاب. وتجد هذه الرؤية ظلها في "القانون الدولي الإنساني"، الذي لم يكتف بتنظيم علاقات الدول وقت السلم، بل امتد إلى ساحات الحرب، لحماية المتضررين من النزاعات المسلحة. وجسد قانونا "جنيف" و"لاهاي" هذا الأمر، فالأول يتعلق بحماية فئات معينة من الأشخاص والأموال الثابتة والمنقولة، في حين ينظم الثاني استخدام وسائل القتال وطرقه وسلوك المتحاربين. وكل ما سبق يمثل "قانون الحرب"، وهو الحد الذي لم يقف عنده فقهاء القانون الدولي، بل طرحوا مفهوماً أكثر تقدماً وهو "القانون المضاد للحرب"، أو منع "حق الحرب"، باعتبار أن حظر الحرب يجب أن يكون هو الأصل. وتسير قضايا البيئة على المنوال ذاته، إذ إن الجهود التي بذلت من أجل بيئة نظيفة وطبيعية، دارت في الأساس حول علاقات دولية "إنسانية"، يتكاتف فيها البشر من أجل مصالحهم المشتركة، ويتعاملون في الوقت ذاته برفق ورحمة مع الكائنات الأخرى التي تعيش معهم، من حيوان ونبات. ويدل استعراض الاتفاقيات البيئية الرئيسة متعدد الأطراف Key multi-lateral environmental agreements على هذا الأمر بجلاء، فالاتفاقية الدولية لتنظيم صيد الحيتان (1946) تمكنت بعد إقرارها بتسعة وثلاثين عاماً من تعليق صيد هذا الحيوان النادر لأغراض التجارة، وإقامة محميات طبيعية له. ومعاهدة أنتاركتيكا (1959) وما لحقها من اتفاقية وقعت عام 1980 وبروتوكول مدريد (1991) عملت على حفظ الموارد الحية. وهناك اتفاقية ماربول (1973)، التي تضع قواعد تفريغ النفط وغيره من المواد الضارة من السفن، بما يحمي البحار من التلوث. وفي العام نفسه وقعت اتفاقية لمنع الاتجار الدولي في الحيوانات المهددة بالانقراض. وبعدها بست سنوات وقعت اتفاقية للحد من التلوث الجوي. وفي عام 1985 وقعت اتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون، ثم بروتوكول مونتريال (1987) المتعلق بالمواد المستنفدة من الأوزون. وبعد ذلك بخمس سنوات جاءت اتفاقية الأمم المتحدة حول "تغير المناخ"، وتبعها بعد خمس سنوات أيضاً بروتوكول "كيوتو" حول المسألة نفسها. وقد أقرت هذه الاتفاقية بالمسؤولية التي تقع على عاتق البلدان المتقدمة عن التغير المناخي الذي ينجم عن أفعال البشر. وفي عام 1992 وقعت اتفاقية الأمم المتحدة المعنية بالتنوع الإحيائي، وبروتوكول قرطاجة بشأن السلامة في التقنية الإحيائية. وعلى رغم أن هذه الاتفاقيات لم تلق تطبيقاً كاملًا، وتشهد انتهاكاً لبنودها، خاصة من الدول الكبرى، فإن النضال مستمر في سبيل تنفيذ كل ما حوته، في سبيل نفع البشرية جمعاء، وتعزيز الجانب الإنساني في علاقات الدول، ودفع الدول الكبرى إلى أن تلتفت إلى توجيه جزء من ميزانياتها الضخمة إلى البيئة، ودرء الكوارث، وإدارة الأزمات التي ينتجها "غضب الطبيعة"، ومساعدة البشر على التغلب على الأخطار التي تحدق بهم، ومنها الأمراض الخطرة، بدءاً من "سارس" (الالتهاب الرئوي الحاد اللانمطي) في آسيا إلى "جنون البقر" في أوروبا، إلى "الإيدز" و"السرطان" في كل أنحاء العالم.