عنوان هذه المقالة مقتبس من تساؤل نقيب منشق من الجيش السوري عما إذا بقيت حياة يمكن أن يعود إليها؟ وضع النقيب، واسمه المستعار "أبو محمد"، كفه على فمه، وأغلق عينيه، وهو يقول: "لا يجدر بالبشر مشاهدة هذا". وتساءل: "كيف سنعود إلى حياتنا السابقة؟". قال زميله النقيب المنشق أبو حسين: "وهل بقيت عندنا حياة؟"... كان ذلك في صبيحة جولة التفتيش اليومية للنقيب أبو محمد الذي يقود العمليات ضد قوات الحكومة في حي صلاح الدين في حلب. كومُ جثث على الرصيف، وفي وسط الشارع جثتا رجلين، أحدهما مستلق على ظهره، يرتدي قميصاً أحمر داكناً وسروالاً أبيض، منفرج الذراعين والساقين، ووجهه المنتفخ أزرق مرمَّد، وفمه مفتوح، ورأسه مطروحة على كومة نفايات. والرجل المستلقي إلى جانبه منكفئ على وجهه، وبركة دماء كبيرة جافة تغطي المساحة بينه وبين دراجة سوداء. عندما اقترب أبو حسين ليلقي نظرة هبّت غمامة كثيفة من الذباب تطّنُ فوق رأسي الرجلين. وعلى بعد أمتار قليلة سيارة تاكسي صفراء واقفة وسط الشارع، ونافذتها الأمامية مثقبة بآثار 18 طلقة. وفي داخل السيارة جثتا رجل وامرأة تحت غطاء كثيف من الذباب. ويبدو من وضعيهما أن الرجل حاول حمايتها، وحاولت المرأة الاختباء تحته. وفي المقعد الخلفي جثة طفل. هذه لقطات من تحقيق ميداني مصور على صفحتين يروي فيه غيث عبد الأحد، مراسل صحيفة "جارديان" البريطانية، القصةَ التي تعجز عن روايتها الفضائيات وأجهزة الإعلام العربية والدولية، أو هي لا تريد ذلك. والصحافة كالأدب، الذي يقول عنه الفيلسوف الفرنسي سارتر: "ليس هناك أدب تقدمي وأدب رجعي، بل أدب جيد وأدب سيء". والصحافة السيئة للفضائيات خصوصاً تغطي عذابات السوريين بصور عذابات السوريين، وتمحو بالتصريحات الخطابية تساؤلات الناس، وهواجسهم، وتفكيرهم الداخلي. وعجيبٌ كيف يمكن أن تمتلك الكلمات المكتوبة صدقيةً أشدّ من الصور، وأصعب على التعتيم. وهذا ما يميز مراسلات غيث الذي تعمّدَ بنار بلده العراق، حيث بدأ حياته الصحفية بعد الغزو عام 2003، ونال جوائز عالمية، بينها الجائزة البريطانية لأفضل مراسل أجنبي عام 2008، وتعرض مرات عدة لخطر الموت في العراق والصومال والسودان، وفي أفغانستان اعتقل مرتين، وفي ليبيا اعتقل زمن القذافي، وأنقذته توسطات "الجارديان". وفي آخر مراسلة له من العراق، في ذروة الصراعات الدموية الطائفية، عقد لقاءً مع مقاتلي المقاومة الوطنية في الأعظمية، والذين تحدثوا عن المأزق الأخلاقي الذي يواجهونه في قتل قوات النظام المتحالف مع المحتلين الأميركيين، الذين يسرُّهم قتل مجندين يتكون معظمهم من فقراء الشيعة. كان العراقيون يحسدون السوريين على حكمة نظام تجار الشام التي جنبتهم مزالق مهلكة انجّر إليها بلدهم، وتفجعهم اليوم مزايدة أطراف النزاع السوري على أعداد شهدائهم كأنهم رؤوس بصل تفتح شهية الخطابة. كيف انزلق السوريون في هذه المخاضة الدموية؟ وما المخرج منها؟ وما نوع الحياة التي تنتظرهم في نهاية طريق مفروش بالجثث وأنقاض المجتمع والدولة؟ ومن يجرؤ الآن على النظر في غياهب الجُب الطائفي المتصل بين العراق وسوريا، حيث الموتى يتحكمون بالأحياء، موتى اليوم، وأمس، وعشرات القرون الماضية، وموتى الغد، وما بعد الغد؟.. وهل يدرك السوريون ما أدركه قبلهم العراقيون من أن دفاع الضباط عن نظام الحكم ليس حباً به، بل لمعرفتهم بأنه إذا تفكك الجيش فلن يحظوا حتى بالواقع العراقي الدموي الفاسد؟ فكميات النفط في سوريا لا تكفي لتأمين نوع من سلطة مركزية قادرة على شراء ولاءات عابرة للطوائف والعشائر، وتحمُّل النفقات الفادحة للأمن. ولا أعتقد أن الكيان السني المرشح لحكم سوريا يتمتع بتماسك وتنظيم الكيان الشيعي القائم في العراق عبر القرون، والذي يحفظ قدراً من الأمن النسبي في مدن جنوب العراق. وفيما تُلقي كل من المعارضة والنظام السوريين بالمسؤولية على الآخر، تموت مع البشر أقدم أحياء المدن المسكونة في العالم التي تحول بعضها إلى أنقاض. يوم السبت الماضي اكتسحت النيران السوق المركزية المقبّبة وسط المدينة القديمة في حلب، التي تصنفها "اليونسكو" في قائمة حماية التراث الإنساني، ودمرت النيران الجانب الأعظم من شبكة حوانيت يعود تاريخها إلى القرون الوسطى. والدمار الذي يلحق بالمدينة يوازي موت السكان، حسب صحيفة "نيويورك تايمز" التي ذكرت أن كلاً من الحكومة والمعارضة يلقي باللوم على الآخر، وقالت إن المعارك انتهت إلى مأزق لجميع الأطراف، وقد تنعكس سياسياً ضد المعارضة التي تشن ما تعتبرها المعركة الحاسمة. بعض معارضي نظام الأسد أخذوا يبدون سخطهم على المسلحين الذين يشنون القتال بشكل متعمد قرب المدينة القديمة. "أحرقت هذه النيران قلوبنا وعقولنا"، قالت ذلك الدكتوره ديما التي اكتفت الصحيفة بذكر اسمها الأول، ونقلت عنها قولها "إنه ليس مجرد سوق وحوانيت بل هي روحنا أيضاً". وردَّدَتْ ديما ثلاث مرات كلمة "مستائين" للتعبير عن احتجاج المقاومة السلمية للنظام، وهي واحدة منهم، ضد "كتائب التوحيد" الإسلامية. واتهمتهم بالتقصد في استعداء النظام لضرب السوق والجامع الأثري قربه الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر الميلادي، واستخفّت بكلامهم عن المعركة الحاسمة "ليست هناك معركة حاسمة، ولا وجود لمناطق محررة". هذا الخبال الذي تصورناه صناعة عراقية تعرض طبعته السورية قصة "الشاب الذي قال الشيء الغلط". عنوان مأساة عبثية، من نوع أدب اللامعقول، يرويها شاهد العيان غيث عبد الأحد الذي تابع الشاب منذ التقطه المنشقون عند نقطة تفتيش في حي صلاح الدين، حيث اختلطت خطوط القتال. اقتيد الشاب إلى النقيب المنشق أبو محمد الذي يرتدي الزي العسكري الرسمي، فتصور الشاب أنه وقع في يد جيش النظام فسارع للاعتراف بأنه يعرف مواقع الثوار، ومستعد لإدلاء الجيش عليهم. "سيدي، أريد أن ألتحق بكم وأساعدكم بقتالهم". واستهوت اللعبةُ النقيب الذي طمأن الشاب بقبوله في دورة تدريب في الجيش السوري، وأمر أحد المقاتلين تصويره باعتباره من التلفزيون الرسمي، فانخرط الشاب يردد كالببغاء لغة النظام، ويتحدث عن "عناصر إرهابية الآن في المدرسة، وسيدي يرتكبون أعمالاً إرهابية ترعب المواطنين الأبرياء. دخلوا بيتي وأخذوا التلفزيون وحاولوا الاعتداء على أمي واقتحموا المنازل وسرقوها واعتدوا على الأولاد والبنات الصغار". وانتهت النكتة عندما انهال أحد المقاتلين بصفعة عنيفة على خد الشاب الذي تجمّد من الهلع، واندفع في تغيير إفادته مرات عدة. وتورد القصة تفاصيل مفزعة ومغثية حول التعذيب الذي تعرض له الشاب ساعات على أيدي ست مقاتلين. وفي اليوم التالي ذكر النقيب أبو محمد بأنه متأكد أن الشاب مجنون واعترافاته كلها مختلقة، وهو لا يعرف أي شيء.