تشهد المجتمعات البشرية منذ فترة تغيراً ديموغرافياً جذرياً، يتمثل في زيادة متوسط أعمار أفرادها، وخصوصاً من هم فوق سن الستين، ضمن الظاهرة المعروفة بشيخوخة المجتمعات. ففي عام 2000 مثلاً، ولأول مرة في التاريخ، أصبح عدد كبار السن ممن تخطوا سن الستين من البشر، أكبر من عدد الأطفال دون سن الخامسة. وبوجه عام يشهد عدد ونسبة كبار السن تزايداً مطرداً، وبمعدل أكبر من معدلات زيادة أي من الشرائح العمرية الأخرى. فخلال العقد الحالي، سيزداد عدد المسنين بمقدار 200 مليون ليتخطى حاجز المليار لأول مرة، وبحلول عام 2050 يتوقع أن يصل عددهم إلى ملياري شخص. وينظر كثيرون إلى هذا التغير الديموغرافي الجذري على أنه نتيجة طبيعية للنجاح الذي حققه الجنس البشري على صعيد تحسين كمية ونوعية التغذية لأفراده، ورفع مستوى الرعاية الصحية والتعليم، وتوافر مياه الشرب النظيفة ونظم الصرف الصحي الحديثة. وهذا السبب الأخير احتل قبل بضعة أعوام رأس قائمة أهم الاختراقات الطبية التي حدثت في مجال الطب والصحة منذ عام 1840، ضمن استفتاء أجرته إحدى أشهر الدوريات الطبية في العالم (British Medical Journal)، وشمل أحد عشر ألفاً من قرائها. وإن كان هذا النجاح الديموغرافي غير المسبوق، سيحمل معه تحديات خاصة وهائلة، وغير مسبوقة أيضاً. وهذا ما عبر عنه تقرير صدر هذا الأسبوع عن منظمة الأمم المتحدة، بعنوان "الشيخوخة في القرن الحادي والعشرين: فرصة للاحتفال ومواجهة التحديات" (Ageing in the 21st Century: A Celebration and a Challenge). وأكد هذا التقرير على ضرورة الاستعداد للتحديات التي ستفرضها شيخوخة المجتمعات البشرية خلال العقود القادمة، وخصوصاً في الدول النامية، على صعيد نظم الرعاية الاجتماعية، ونظم الرعاية الصحية، ونفقات التقاعد والمعاشات، بالإضافة إلى التحديات الاجتماعية الخاصة، مثل الإهمال، وسوء المعاملة، والعنف ضد كبار السن. وهذه التحديات الأخيرة، ستنتج بشكل أساسي من تغير اجتماعي آخر، تعيشه الدول الصناعية الغربية منذ عقود، وتمر به حالياً مجتمعات الدول الفقيرة والنامية، ويتمثل في تراجع دور الأسرة الكبيرة الممتدة، التي كانت تشمل عدة أجيال متعاقبة، يقطن أفرادها أحياناً نفس المنزل، واستبدالها بالأسرة النووية، التي تتضمن جيلين فقط، الزوج والزوجة وأولادهما، وقد أصبحت تقطن مساكن أصغر حجماً وأكثر انعزالية عن باقي أفراد العائلة الممتدة. ونتيجة لهذا التغير الاجتماعي، أصبح الأجداد، وأحياناً كثيرة حتى الآباء والأمهات، يجدون أنفسهم في عزلة عن بقية أفراد أسرهم، وعن أولادهم وبناتهم، الذين انتقلوا للحياة في مكان آخر، وتكوين أسرة نووية خاصة بهم. وهو ما يجعل الأجيال السابقة من المسنين فريسة سهلة للتحديات الاجتماعية سابقة الذكر، وبالتحديد الإهمال، والعنف أحياناً. وعلى الصعيد المادي، يمكن فهم التحديات الاقتصادية التي ستنتج من شيخوخة المجتمعات البشرية، من خلال ثلاثة محاور رئيسية، هي: زيادة النفقات، تراجع الإنتاجية، وانخفاض عوائد الضرائب. في المحور الأول، يترافق التقدم في السن بزيادة معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة، وهو ما يتطلب زيادة نفقات الرعاية الصحية، بالإضافة إلى نفقات الرعاية الاجتماعية. أما في المحور الثاني، فيشهد التقدم في السن، وخصوصاً بعد بلوغ سن التقاعد، تراجعاً في الإنتاجية الاقتصادية للشخص، وغالباً ما توقفها تماماً. وفي المحور الثالث وبخلاف تراجع ما يمكن للدولة أن تحصله من ضرائب تترافق شيخوخة المجتمعات بانخفاض نسبة الأفراد المسؤولين عن الإنتاج، وتحمل عبء الضرائب، مقارنة بنسبة شريحة المسنين التي لا تضيف إلى حصيلة الضرائب، وفي الوقت نفسه تتطلب نفقات إضافية. وغني عن الذكر هنا، أن سير أي من الدول في هذا الاتجاه لفترة طويلة، لابد أن يستنفد الميزانيات العامة، وأن يؤدي في النهاية إلى انهيارها الاقتصادي. وهي المشكلة الرئيسية التي تواجهها بعض أكبر الاقتصادات في العالم حالياً، مثل اليابان، أو حتى الصين التي أدت سياسة الطفل الواحد فيها إلى تسارع شيخوخة مجتمعها بشكل غير مسبوق. وإن كان هذا لا يعني أن شيخوخة المجتمعات، ومن ثم انهيارها اقتصادياً هو قدر محتوم لا مفر منه، حيث يمكن أن تتخذ حزمة من الإجراءات والتدابير التي بوسعها تخفيف وقع زيادة متوسط أعمار أفراد الجنس البشري على مستقبل ورفاهية مجتمعاتهم. فعلى سبيل المثال توفير رعاية صحية جيدة وتثقيف صحي فعال، خلال سنوات منتصف العمر، من شأنه أن يقلل من احتمالات الإصابة بالأمراض المزمنة في مراحل لاحقة من العمر، بما تتطلبه هذه الأمراض من نفقات صحية إضافية. ومن الممكن أيضاً رفع سن التقاعد، لزيادة فترة إنتاجية الشخص قبل إحالته للتقاعد، أو الاستفادة من خبرات المتقاعدين، في تدريب الأجيال الناشئة، أو وضع الخطط التنموية. ومثل هذه الاستراتيجيات يمكنها أن تحول زيادة متوسط أعمار أفراد مجتمع ما إلى ميزة، بدلاً من أن تجعلها عبئاً اقتصادياً يهدد المجتمع كله بالانهيار.