على مدى أكثر من خمسين عاماً لم يحقق التعاون الاقتصادي العربي التقدم المنشود، مما أدى إلى تراكم القرارات في خزائن جامعة الدول العربية التي قررت مؤخراً دراسة إمكانية إطلاق عملة عربية موحدة، وذلك بناء على اقتراح مقدم من اتحاد المصدرين والمستوردين العرب. ومن غير المعروف الأسس التي اعتمدتها الجامعة العربية حول هذا الاقتراح الذي يحمل طابعاً عاطفياً غير قابل للتطبيق أكثر منه توجهاً يستند على أسس موضوعية وعلمية يمكن من خلالها السعي لإطلاق مثل هذه العملة. لقد تميز العمل العربي المشترك، بما فيه الاقتصادي بجوانب عاطفية بعيدة عن الواقع، مما يؤدي إلى ركن القرارات المتخذة لسبب بسيط، وهو أنها غير قابلة للتطبيق لعدم توافر الظروف اللازمة لتنفيذها، فالسوق العربية المشتركة، وهي مسألة أقل تعقيداً من العملة الموحدة لم يطبق بند واحد من بنودها منذ الاتفاق بشأنها قبل خمسين عاماً تقريباً، أي في عام 1964، أما منطقة التجارة الحرة التي بدأ العمل بها منذ عشر سنوات، وهي تمثل بداية متواضعة وسهلة التطبيق من خلال إلغاء الرسوم الجمركية على السلع العربية المنتجة محلياً، فإنها لا زالت بدورها تعاني من الجمود، علماً بأن العملة الموحدة لأي تجمع اقتصادي لا يمكن الوصول إليها قبل عملية تحضير تشمل تطبيق اتفاقيات مشتركة، كمنطقة التجارة الحرة والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة وتوحيد الأنظمة والتشريعات المالية، هذا أولاً. أما ثانياً، فإن العملة الموحدة تتطلب تقارباً في الأوضاع المالية والنقدية، وبالأخص قوة الموازنات الحكومية ونسب العجز والدَّين العام وتقارب أسعار الصرف للعملات الوطنية وسياسات الائتمان وأسعار الفائدة ونسب التضخم... الخ من المسائل المالية والنقدية المعقدة التي تتفاوت بصورة صارخة وكبيرة بين البلدان العربية في الوقت الراهن وتعرقل عملياً أي توجه لإطلاق عملة عربية موحدة في المدى المنظور لغياب الأسس الموضوعية اللازمة لذلك. ويمكن الإشارة هنا إلى أحد هذه التفاوتات الكبيرة بين البلدان العربية، فحصة الفرد من الناتج المحلي تبلغ أقصاها في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تجاوز متوسط دخل دول المجلس 40 ألف دولار للفرد في عام 2011 في حين يبلغ هذا المعدل ألفي دولار فقط في اليمن ولا يتجاوز الألف دولار في الصومال، كما أنه في الوقت الذي تحقق فيه الموازنات الخليجية فوائض كبيرة، فإن موازنات معظم البلدان العربية الأخرى تعاني من العجز المزمن وتعتمد على المعونات الخارجية. وإذا ما أخذنا تجربة دول مجلس التعاون الخليجي، كمثل بارز للتعاون الجماعي في المنطقة، فإنه على رغم التقدم الذي أحرز في المجال الاقتصادي، كإقامة منطقة للتجارة الحرة والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة، إلا أن مسألة توحيد العملة لا زالت بحاجة إلى جهود إضافية ومكثفة للوصول إليها، وذلك على رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على تأسيس المجلس والتجانس الكبير بين الاقتصادات الخليجية وتقارب مؤشراتها التنموية وتشابه أنظمتها المالية والنقدية التي اكتست طابعاً جماعياً موحداً في الآونة الأخيرة. ومن حيث المبدأ، نعم هناك آفاق للتعاون الاقتصادي العربي، إلا أن هذه الآفاق لابد أن تنطلق من قاعدة علمية وموضوعية تأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة والتفاوتات والقدرات الاقتصادية للبلدان العربية، إذ إن البداية الصحيحة لهذا النمط من التعاون يمكن أن تبدأ من إقامة منطقة للتجارة الحرة تعفى بموجبها المنتجات المحلية من الرسوم الجمركية، على ألا يتم الانتقال إلى مرحلة أخرى أكثر تقدماً إلا في حالة إنجاز مرحلة منطقة التجارة الحرة بصورة كاملة، وذلك إذا ما أريد لهذه الخطوات الطموحة أن تنجح وتحقق الأهداف المرجوة. وبما أن جامعة الدول العربية تزخر بالعديد من الكفاءات المجربة، فإن عليها الاستفادة من التجربة الخليجية وإعداد صيغ للتعاون أكثر منطقية واستجابة للواقع مع الابتعاد عن العواطف والتمنيات غير القابلة للتطبيق لعدم نضوج الظروف اللازمة لإنجاحها. وعندها فقط يمكن لمثل هذه المبادرات أن تتمتع بالمصداقية وأن تتجاوب معها البلدان العربية بصورة عملية.