تنام وباب بيتك مشرعاً على الطريق ولا تخاف. تمشي في ساعة متأخرة من الليل وتجد الحياة ساكنة لكنك تسير مطمئناً لا تلتفت إلى الوراء مسكوناً بالقلق خوفاً من أن أحداً يتربص بك أو مكروهاً ينتظرك. تتحرك وسط الزحام ولا تفكر أن تتحسس جيبك. تسير في الشارع ولا ترتبك لمنظر دورية مرور تمر بجانبك. وتقف أمام شرطي الجوازات في المطار وتبتسم لأنه يبتسم لك، لا يطيل النظر إلى وجهك، ولا يرمي عليك الأسئلة الاتهامية التي تلقاها في معظم مطارات العالم: لماذا أتيت؟ وأين تسكن؟ ومتى تغادر؟ يقول لك فقط: الحمد لله على السلامة، أو يودعك متمنياً لك رحلة سعيدة. لا أحد يطالبك بشهادة حسن السيرة والسلوك، وإذا احتجت لها ستجدها في ملفك على شبكة الإنترنت عند أي دائرة تراجعها، أو قد تذهب إلى مركز الشرطة للحصول عليها وسيستقبلونك باحترام ويسلمونك إياها في وقت قصير، هذا إذا كنت حقاً حسنَ السيرة ولا تملك سجلاً ملوثاً أو مشبوهاً. أما إذا تجنى عليك أحد، فضايقك في سيرك أو إعتدى عليك، أو أزعجك وآذى حريتك، فما عليك إلا أن تتصل هاتفياً، وستجد من يحميك وينتصر لك في لحظتها. حركة الاقتصاد والسياحة والحياة الاجتماعية والنشاط السياسي... جميعها لا تقوم في مكان ما وتستقر وتزدهر من غير مظلة الأمن. دول عديدة أكثر رخاءً وازدهاراً، وتملك ثروات ومزايا جغرافية وخبرات وممارسات زمنية في الحكم والإدارة أقدم من تجربة دولة الإمارات، لكنها لم تنهض وتقوى وتكبر مثل هذا البلد، فلماذا؟ ببساطة لأن جميع هذه العوامل الإستراتيجية التي تتمتع بها الدولة من ثروات وإنجازات ومبادلات وتركيبة سكانية وحراك مجتمعي، وحياة حافلة بالنشاط والديمومة على مدار الساعة والعام، يضبط إيقاعها ويحرسها جنودٌ لا نشعر بهم أو بحجم التعب والأخطار التي يواجهونها ويصدونها عنا، إنها وفرت معادلة الأمان للجميع مما حافظ على أمن الدولة واستقرارها. هذه العيون الساهرة تمتاز بأنها محبة ومخلصة لهذا الوطن وأهله، لأن المؤسسة الأمنية لا تشابه أي جهة توظيف أخرى، فجميع أو أغلب من يعمل فيها يجب أن يكونوا إماراتيين. بلد يعاني خلل التركيبة السكانية، يقيم فيه حوالي 220 جنسية، ما يعني وجود ثقافات ولغات وعادات وطبائع وألوان من الجرائم والأساليب بتعدد هذه الجنسيات. وكما أخفقت "مافيات" دولية في المخدرات والقتل واللصوصية والاتجار بالبشر، حين حاولت تصفية حساباتها أو تحقيق مكاسب لها في نطاق هذا البلد المفتوح أو تستفيد من تسهيلاته. هذا بالإضافة إلى وجود قلاقل دولية وإقليمية محيطة، ومهددات أمنية خارجية تحركها طوائف أو دول. ومع ذلك فقد استطاعت هذه الدولة أن توفر المظلةَ الأمنيةَ، رغم ثقل المسؤولية وتشعّبها، وأن تجعل أهل البلاد ومن يقيم فيها أو يزورها، يعيشون جميعاً من غير خوف أو قلق، ينعمون بنعمة الأمن، ويعيشون مستقرين، يعملون ويحلمون وينجحون. وما دمت وثقتُ في هذا الجهاز الذي وفر لي الحماية وجعلني أعيش بسلام وحرية، وأثبتت لي التجارب والممارسات أنه حمى المجتمع ووقى الوطن من شرور ومصائب عديدة داخلية وخارجية، لماذا يُطلب مني اليوم أن أتشكك فيه؟ لماذا (هذا) المشبوه يحاول أن يطعن فيه، وهو يعلم جيداً أنه أقوى سلاح نملكه وسط هذه المهددات والمخاطر التي تحاصرنا؟ لكن هكذا هي عقيدة تيار "الإخوان المسلمين" وأساليبهم في صناعة الوهم واستخدام لغة الخطابات الناعمة واستغلال الدين شعاراً ووسيلةً، وفي نشر الإشاعات وإشعال حروبهم الظلامية ضد كل من يخالفهم أو يواجههم أو يقف عائقاً أمامهم أو لا يحقق أهدافهم... سواء أكان الطرف الآخر فرداً أم تياراً مخالفاً لأفكارهم أو حتى دولاً. لكن أمام هؤلاء فإن تجارب المجتمعات وثقافتها وفراسة أهلها العقلاء تحكم على الفرد إذا كان صادقاً مخلصاً أو مدّعياً، فلا يمكن أن يأتي لهم (هذا) الذي يسكن ذاكرة المجتمع بماضيه السيء، أو له صورة مقيتة أو فضائحية يعرفها الجميع ويقول لهم: أنا أحبكم،وأنا صوتكم، أنا الصادق المخلص المنقذ... لا يمكن أن يقفز لهم فرد أو جماعة مشبوهة، ويقولون لهم نحن نناضل من أجلكم، ونحن نعرف مصلحتكم وخيركم، وإن هذا الأمن سيخرّب المجتمع، وسيجر البلاد إلى الدمار والهاوية! فهل يمكن أن نكذّب الواقع ونتشكك في تجربتنا وحياتنا وخبراتنا، ونصدّق هؤلاء؟ الناس ما زالوا عقلاء، رغم أنهم في زمن يوسم بالجنون ويجلب الحيرة! هناك عواصم عظمى توافرت لها مختلف سبل التنمية والقوة، وسيطرت على العالم وساهمت في صناعة الحضارات أو أشعلت نيران الحروب في أطراف هذا الكوكب الذي نسكنه، وملكت كل شيء، إلا الأمن وتحديداً أمنها الداخلي الذي ظل هاجساً يقلقها باستمرار. ذات مرة كنا مجموعة من الزملاء نسير ليلاً في موسكو، وأقول ليلاً بمفهومهم هم، يعني أن الساعة لم تتجاوز العاشرة مساءً وفي أشهر شارع بها، خرجنا من المطعم المجاور للفندق، وإذا شرطيان عليهما أوزان ثقيلة من الرتب والنياشين يطلبان منّا بلغة مكسّرة إثبات الهوية، ولحسن الحظ كنت لحظتها أحمل جواز السفر فتركاني، أما بقية الأصحاب فعرضا عنوان الفندق وبطاقة الهوية،إلا أنهما رفضا منهم ذلك وطالباهم أن يصعدوا إلى السيارة، وبين أخذ وإشارات، لوحوا لهم بالعملة الخضراء الساحرة، ورغم أنها كانت مجرد دولارات بسيطة، فإنها كانت المفتاح السحري الذي أنجاهم من ويلات المتاهات وتحقيق الغرف المغلقة التي عشنا أجواءها في المطار. انفتح لهم الباب وابتسامة عريضة تودعنا. رتب عسكرية في بلدان أخرى تقود جيوشاً تتعامل هكذا مع السياح، ومع منظومة الأمن. أما في الولايات المتحدة الأميركية، فكم من حالات قُطع فيها بث البرامج الفضائية المعتادة للإبلاغ عن مجرم خطر هارب، أو تم نقل مباشر يشبه صناعة هوليود السينمائية لمجرم يحاول سرقة سيارة الشرطة ومطاردته، أو آخر يفجر سوبر ماركت، أو عصابة تسطو على مصرف في وضح النهار. دولة تحكم وتحرك كل العالم تشهد ولاياتها جريمة قتل كل 20 دقيقة، تسرق سيارة فيها كل دقيقة، وكل 3 ثوان تقع فيها جريمة مالية، وأكثر من مليون أميركي في سجونها وضعف هذا العدد تحت المراقبة... وذلك حسب تقاريرهم. ولا نذهب بعيداً، ففي دولة عربية شاهدنا على "اليوتيوب" كيف أن مراهقاً يلحق سيارة الشرطة ويصدمها، وسط ضحكات جمهور حلبة سباق السيارات. ودولة أخرى اشتهرت بالأمن يدخل مسلح إلى قاعة عرس في فندق ليفجر الحفل، وفي نفس اللحظة يُقتل ضيف كبير في صالة استقبال فندق آخر. ودولة ثالثة لا تشعر إلا وجيش دولة جارة يحل عليها فجأة! ماذا لو تحدثنا عن الأمان في البلدان العربية الباقية؟ أو عن دول تعد وجهات سياحية عالمية، وتزدهر فيها حركة التجارة، وتحتل موقعاً استراتيجياً، لكنك لا تستطيع التحرك فيها إذا حل الظلام، وقد لا تأمن أن تسير فيها وحيداً في وضح النهار، ولا تترك سيارتك إلا مقفلةً، وفي أحيان تضطر أن تحمل سلسلة ثقيلة تقيد بها إطاراتها الخارجية؟! فأي نعمة، وأي استقرار يمكن أن تشعر به الدول والأفراد، من غير أمن حقيقي؟!