يعد كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، من أبرز الكتب المعادية لليهود وأكثرها انتشاراً، حيث ترجم إلى لغات عديدة، منها اليابانية. ولهذه "البروتوكولات" حديث آخر مطول، ولكننا نريد هنا مواصلة ما انقطع من حديثنا عن العلاقات اليابانية - اليهودية، وبخاصة ما ورد في كتاب "اليهود في العقلانية اليابانية"، لمؤلفيه جودمان وميازاوا. فلنطالع الآن ما يقولان عن نشر هذا الكتاب، أي "البروتوكولات" في اليابان. تم تقديم الكتاب للجمهور الياباني خلال الهجوم الياباني على سيبيريا 1918-1922. وقد طبعت البروتوكولات مراراً في اليابان، وكان لهذا الكتاب الشديد العداء لليهود تأثيراً بالغاً على اليابانيين ولا يزال. وحتى عندما ترجم كتاب "ثورمان كوهن" الذي يكشف زيف هذه البروتوكولات عام 1986، أعاد الناشر الكتاب ضمن مجموعة الكتب الأساسية في "نظرية المؤامرة". وكانت ثورة 1917 الروسية وسقوط أسرة "رومانوف" في أكتوبر من ذلك العام وفوز البلاشفة قد هزت الحكومة اليابانية التي راحت تبحث عن سبل التعامل مع ذلك الحدث. ودعت وزارتا الدفاع والخارجية إلى التدخل واستغلال الفرصة لإقامة موضع قدم لليابان في سيبيريا، بينما عارضت بعض الصحف مثل هذا التدخل بقوة. وفي يناير 1918 تم إرسال بعض السفن الحربية اليابانية إلى ميناء "فيلادفوستيك" الروسي، وتم إنزال جنود البحرية هناك. كان التدخل الياباني ضد الثورة الروسية هو الأدوم، إذ بقيت قواتها حتى أكتوبر 1922، وبقيت جزيرة سخالين محتلة حتى عام 1925. كانت "بروتوكولات حكماء صهيون" قد نشرت في روسيا لأول مرة عام 1903، ولكن الكتاب لم يبرز ويشتهر إلا بعد الثورة الروسية سنة 1917، عندما ترجم إلى عدة لغات. وكان الثري الأميركي المعروف "هنري فورد" ممن تترجموها إلى الإنجليزية عام 1920 تحت عنوان "اليهودي العالمي" International Jew، وكان الكتاب من المنشورات التي استخدمتها الدعاية النازية فيما بعد. كما أن الكتاب عاد فنشر في اليابان نفسها سنة 1994. ويتحدث الكتاب كما هو معروف، عن مخطط يهودي سياسي اقتصادي ثقافي واسع النطاق للسيطرة على العالم والتحكم في مقدراته. ولكي تتم هذه السيطرة لليهود، فلابد من تحطيم سائر القوى والاقتصادات والدول المنافسة، وذلك عبر خطوات تدريجية، حيث يساند اليهود الدعوة إلى الديمقراطية والليبرالية بينما يهدفون حقيقة إلى نشر العصيان والفوضى اللذين سيعمان العالم حتماً مع الديمقراطية والتعددية. وهكذا ستنهار قوة الأنظمة الملكية المحافظة القادرة على وقف المد اليهودي. وبزوال الطبقات الأرستقراطية ستحل الأنظمة الجمهورية الرئاسية محلها مما يسهل لعقول صهيون توجيه الأحداث والتطورات. أما في مجال الصناعة، فلابد من تأسيس الشركات الكبرى وإقامة الاحتكارات كي يتمكن اليهود من تحطيم كل منافسيهم في مختلف ميادين الإنتاج. وفي المجال الثقافي والإعلامي والأخلاقي يقوم اليهود بنشر التحلل والإلحاد وغيره، كي يسهل انقياد غير اليهود إلى الاستراتيجية المرسومة، ويصبح العالم برمته في يد اليهود. ومما سهل تقبل اليابانيين لما جاء في هذه البروتوكولات من تنبؤات وتحذيرات، أن الكثير منها كان يشبه تماماً ما اعتاد بعض المعادين للمسيحية والغرب من كُتّاب اليابان التحذير منه على امتداد سنوات، ومنهم من أشرنا إليهم في مقالات سابقة مثل "آيازاوا سي شي ساي" و"أوكاي تتسوجو" و"أوهاشي توتسوان". كان من أوائل من قدم البروتوكولات لليابان هيجوشي تسو يانوسوكي Higuchi Tsuyanosuke (1870-1931)، الذي أمضى 39 شهراً مع الجيش الياباني في سيبيريا. كان التدخل اليابني في سيبيريا محاولة نبيلة، في تصور "هيجوشي"، يقوم به اليابانيون لإنقاذ الشعب الروسي من براثن اليهود. وامتلأت محاضراته بعد عودته، بإشادة رومانسية بماضي القيصرية الروسية، وبالتباكي على تلك الأيام والتقاليد الجميلة التي تمزقت على يد البلاشفة الشيوعيين ومن ورائهم من اليهود. وفي عام 1921 نشر "هيجوشي" مجموعة محاضراته هذه تحت عنوان "الخطر اليهودي" Yudayaka، فدخل المصطلح اللغة اليابانية لأول مرة. وكتب ذات مرة مستخدماً اسماً مستعاراً، أن بداية اهتمامه بالمسألة اليهودية كانت في العاصمة الروسية عندما كان طالباً هناك. وكتب في مقدمة كتاب الخطر اليهودي، باسمه المستعار كيتاجامي بايسكي Kitagami Baiseki: "لقد عايشت الثورة الروسية وبحثت دوافعها الدفينة، وأصبح من رغباتي المتواضعة أن أحذر اليابانيين من الخطر اليهودي الذي يهددنا، وأن أقوم بما أستطيع للتصدي له. وبدت الثورة الروسية لـ"هيجوشي"، الذي كان ينظر إليها من خلال عدسة البروتوكولات، أمراً متوقعاً لما قد يحدث عندما تتسلط زمرة شريرة منعدمة الضمير على الشعب الروسي البريء، وكتب في كتاب الخطر اليهودي يقول:"مهما بلغت وحشية الروس وبربريتهم، ما كانت الثورة الروسية ستكون بهذه القسوة لو قادها الروس، فعلى الأقل، لا نرى في نحو 900 عام من تاريخ روسيا ما يماثلها قسوة. ولهذا يمتلكنا الشك من أن قوة ظلامية كانت منبع هذه الوحشية، وأن الشيطان نفسه ربما كان يوجه هذه الثورة. غير أن الأمر يتضح جلياً عندما نعلم أن قادة النظام الشيوعي جميعاً من اليهود، وعندما نطالع خطط المؤامرة اليهودية". كانت الأفكار الاشتراكية قد عرفت طريقها إلى اليابان فور انفتاحها مع "ثورة الميجي" 1868، وبشكل رئيسي عبر المبشرين المسيحيين الذين كان بعضهم يروج كذلك لفكرة الأخوة العالمية. غير أن هذه الأفكار ظلت غير قادرة على الانتشار إلى أن قويت الحركة الصناعية، وما حملت في مسيرتها من تذمر العمال ورغبتهم في تحسين أوضاعهم، وباتت هذه الطبقة أكثر تقبلاً لدعوات العدالة الاجتماعية واقتسام الثروات والتأميم. وكانت الحركة الرائدة هي "الحركة الحرة لحقوق الشعب" التي تأسست سنة 1873 وتحولت فيما بعد إلى حركة دستورية أكثر منها اشتراكية. كما ظهرت في السنة نفسها مجموعة أخرى دعت إلى الإصلاح الاجتماعي. وفي عام 1896 تأسست "جمعية دراسة الاشتراكية" ، ثم أعيد تنظيمها من جديد عام 1901 كأول حزب ياباني اشتراكي، "الحزب الاشتراكي الديمقراطي". وقد عمدت الحكومة إلى حظر الحزب بعد يومين من الإعلان عن تأسيسه، كما تم منع وقمع العديد من المحاولات الأخرى التي جرت في الأعوام التالية. أما الحزب الشيوعي الياباني، فقد تأسس في 15 يوليو 1922، كجناح سري من حركة الكمنترن الدولية، وتم حظره فوراً، وطارد البوليس السري مجموعاته المؤسسة. وكان بعض رجال "الكمنترن"، الحركة الشيوعية التي كانت تدار من موسكو، قد نجحوا في الاتصال بمجاميع من المثقفين والثوريين في الصين وأسسوا الحزب الشيوعي هناك في صيف 1921، فيما تولى شخص آخر تنظيم الطلاب من ذوي الميول الثورية ومن المتعاطفين مع ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا. وبالفعل مثل وفد شيوعي من اليابانيين حزبهم في مؤتمر "كادحي الشرق" في موسكو، فبراير 1922. وكان كاتاياما سن وكوكامي هاجيمي من أوائل الماركسيين اليابانيين. وكان "سن" (1806-1933) الآسيوي الوحيد الذي شارك في رئاسة "الدولية الثالثة" في موسكو، إحدى أرقى التنظيمات الشيوعية آنذاك، كما أنه الياباني الوحيد الذي دفن في جدار الكرملين! ولقيت الماركسية الترحيب في العديد من الأوساط الأكاديمية. غير أن الحركة الشيوعية والاشتراكية سرعان ما انقسمت بين دعاة العنف ودعاة النشاط السياسي البحت. كما ظهرت في الوسط الأدبي اتجاه يتبع "الأدب البروليتاري:، قامت بإصدار مجلة خاصة. وما لبث أن تشتتت جهود هؤلاء مع وفاة البارزين فيها من جانب والملاحقة البوليسية من جانب آخر، وبخاصة بعد عام 1934 وهيمنة التوجه العسكري على الحياة اليابانية. وهكذا، وكما في دول عديدة أخرى غير اليابان، تم ربط نشاط النقابات والجماعات الثورية ودعاة الاشتراكية، لسبب وجيه في بعض الأحيان، بالبلاشفة والشيوعيين والروس بعد ثورة 1917. وأضيف بذلك سبب جديد للتحذير من "اليهودية العالمية" التي اعتبرت القوة الخفية وراء سائر الاضطرابات السياسية. وفي اليابان لم تكن المخاوف خارجة من عدو اليابان روسيا وثورتها فحسب، بل وكذلك داخل المجتمع الياباني نفسه، حيث نشطت الجماعات العمالية واليسارية والراديكالية من كل نوع، وبات "الخطر اليهودي" حديث الكثير من الأوساط السياسية والفكرية. وفي مثل هذه الأجواء من سنة 1924 صدرت الترجمة الكاملة الأولى لكتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، قام بها ياسو ثوريهيرو، وهو اسم استعاره المترجم الياباني ليخفي اسمه الحقيقي ياسو سنكو. وقد صدر الكتاب بعنوان "في أعقاب الثورة العالمية". ولكن من كان هذا المترجم؟ وما نشاطاته الأخرى؟