كانت الخطابات التي أُلقيت في افتتاح الدورة الجديدة للهيئة العامة للأُمم المتحدة، بالغة التعبير عن تكاثر مشكلات العرب وتعقُّدها. فقد كانت هناك موضوعات ثلاثة هي الرئيسية في أكثر كلمات الرؤساء، وكلُّها عربية: القضية الفلسطينية، والقضية السورية، وقضية أو قصة الفيلم المسيء للإسلام. وفي هذه المسائل كُلها جاء كلام الرئيس الأميركي قوياً، لكنه غير مؤثّر، لأنه- شأنه خلال السنوات الثلاث الماضية- يقول كلاماً جميلاً، ثم لا يكاد يفعل شيئاً بعدها. فقد حاول منذ مطلع عام 2009 إصلاح العلاقة بين أميركا والمسلمين، من خلال خطاباته في القاهرة وإسطنبول وإندونيسيا، لكنه ما غيّر السياسات البوشية تغييراً جذرياً. فقد انسحب من العراق وسلَّمه لإيران، ولم ينسحب من أفغانستان، وأضاف لفضائل بوش المعروفة فضيلة اغتيال الناس من خلال الطائرات بدون طيار! وقد كانت ردود فعل العرب والمسلمين على الفيلم المسيء مسيئة لنا، أكثر مما هي مُسيئةٌ لمن صنعوا تلك التمثيلية التي ربما كان من مقاصدها إحداث ردود مثل تلك التي حصلت. لكنّ الأميركيين كانوا يستطيعون أن يفعلوا الكثير، بيد أن شيئاً من ذلك لم يحدُث! والأبلَغُ من ذلك على عدم جدوى سياسات أوباما، إن كانت له سياسات بالفعل، ما قاله عن القضية الفلسطينية. فقد تمنى أن يسود السلام بين الشعبين، وأن تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة. ونحن نتمنى ذلك أيضاً، لكن أوباما تخلى منذ عامين عن محاولة إنقاذ مفاوضات السلام، واستسلم لنتنياهو والمستوطنين اليهود، كما استسلم لإلغاء أو محاولة إلغاء القدس العربية. واستسلم قبل ذلك وبعده لتوقُّف مساعي جورج ميتشل مبعوثه للقضية بعد عملٍ مُضْنٍ لأكثر من عام ونصف العام. وما اكتفى بذلك، بل أضاف لفضيلة الانهزام أمام نتنياهو الحملةَ على السلطة الفلسطينية لإصرارها على وقف الاستيطان وعلى الذهاب إلى الأُمم المتحدة: فكيف وماذا يكون معنى الأماني والآمال، ما دام الرئيس الأميركي لا يفعل شيئاً بالاتجاه الذي يرغبه ويدّعي أنه يسعى إليه؟! وإذا وصلْنا إلى قضية الثورة السورية، نجد موقفاً من جانب أوباما، لا يختلف عن موقفه وموقف وزيرة خارجيته منذ أكثر من ستة أشهر: الرئيس السوري ينبغي أن يتنحى، والشعب السوري ينبغي أن يأخذ مصيره بيديه. لكنّ الروس والصينيين منعوا التقدم بمجلس الأمن، والأميركي قال إنه لا يمكن فعل شيء من خارج مجلس الأمن. وقد سبق له أن فعل الكثير من خارج المجلس وفي ظروفٍ أصعب، مثل البوسنة وكوسوفو والعراق. وقد اعتذر المسؤولون الأميركيون في الشهور الماضية، بأعذارٍ مختلفة، مثل وجود "القاعدة" في سوريا، وانقسام المعارضة، وحساسية الموقف بالنسبة لتركيا والأردن والعراق ولبنان. أما الواقع فهو أن الأميركيين يجاملون هنا أيضاً إسرائيل؛ إن لم يمكن بقاء الرئيس السوري، فلتخرب سوريا ولتنشغل بنفسها خلال السنوات القادمة! لدينا إذن احتمالان لا ثالث لهما: إما انتظار أميركا، وإما البحث عن حل عربي. ولانتظار أميركا أنصار كُثُر هم الذين دعموا تكليف الإبراهيمي للتحرك في الوقت الضائع أو وقت الانتظار. لكني أرى أن مصلحة إسرائيل لن تتغير بعد الانتخابات الأميركية، وكذلك مصالح روسيا وإيران. وكما قاد هذا الإدراك أُناساً للانتظار، دفع أُناساً آخرين إلى محاولة إقناع روسيا وإيران للمشاركة في الحل. وإذا كان أبو نُواس يرى أنه يكونُ علينا التداوي بما هو الداء؛ فإن هذا إن صحَّ في الخمور على أنواعها، لا يصح في المسائل السياسية ومسائل قتل الناس. وما فعله الرئيس المصري الجديد المنتَخَب يدخل في هذا الباب. فقد اقترح اللجنة الرباعية للحلّ والمكوَّنة من إيران وتركيا ومصر والسعودية، واجتمعت اللجنة مرتين بل ثلاثاً (الاجتماع الثالث في نيويورك)، وما أنتجت شيئاً، فبعد الاجتماع الثاني بالقاهرة مضى وزير الخارجية الإيراني إلى سوريا وأعلن عن دعمه للأسد، رغم أن المصريين قالوا إنه يحمل له اقتراحاً بنشر مراقبين عرب ومسلمين في البلاد. فالإيراني يقاتل ويقتل في سوريا الآن، ولا مصلحة له في وقف النار، وسيظلُّ على هذه الحال حتى يطرده الشعب السوري من سوريا. إن لدينا في المقلب الآخر، وبدلاً من انتظار الأميركي والإيراني، اقتراحاً واقعياً من الفرنسي والقطري. فالرئيس الفرنسي تحدث عن حكومةٍ مؤقتةٍ، يعترف العرب وبعض الدوليين بشرعيتها، ويقدمون لها المساعدة بشتى أنواعها في الداخل والخارج، إلى أن تتمكن من إسقاط النظام. ورئيس دولة قطر تحدث عن حل عربي، يقوم على التدخل سياسياً وعسكرياً في صيغة قوات سلام، تتوصل للدخول في مرحلة انتقالية تُزيل الأسد ونظامه، وتسمح للشعب السوري بممارسة خياراته الديمقراطية. ولهذا الحل صعوباته بالطبع. فما دام الحل عربياً لا طريقةَ للتدخُّل إلا عن طريق الأردن. وهذا يتطلب قراراً عربياً، بالجامعة أو بالقمة، ويتطلب أيضاً قبول الأردن. وما أظهر الملك عبد الله الثاني رغبةً بالتدخل في سوريا حتى الآن. لكن الأمر يمكن أن يتغير إذا كانت له مظلة عربية ودولية، وقد أَظهرت فرنسا رغبةً في ذلك، وقد تنضم إليها بريطانيا أيضاً. يقول الثوار السوريون، والضحايا المدنيون السوريون، إنهم يئسوا من لفْت اهتمام المجتمع الدولي لقضيتهم الإنسانية، فكيف بالقضية السياسية. لكن الحل العربي منطقي بالمجتمع الدولي أو بدونه. فسوريا بلد عربي، والخوفُ من التدخل في الشؤون الداخلية، لا يَرِدُ على العرب، لأننا جميعاً في الجامعة العربية، ولأننا جميعاً أبناء أمة واحدة، والشعب السوري يتعرض للإبادة. ثم إذا كان التدخل خطِراً إلى هذا الحد، فلماذا لا تخش إيران ذلك؟! الجعفري قائد الحرس الثوري قال إن الحرس موجود في سوريا ولبنان. ونجيب ميقاتي، رئيس حكومة لبنان، يقول إنه ما وُجد في هذه الدنيا إلا لصَون لبنان من تداعيات الأزمة السورية! لكننا نعلم أنّ "حزب الله" المتدخِّل في سوريا هو الذي يسيطر على ميقاتي وحكومته، وأنّ ميقاتي كان شريكاً للأسد، وهو الذي دفع باتجاه ترؤسه للحكومة الحالية، فلماذا يجرؤ ميقاتي والمالكي و"حزب الله" على التدخل في سوريا إلى جانب إيران، ويتردد العرب بحجة خطورة التدخل لمنع الأسد من إبادة شعبه؟! إن الحل الفرنسي القَطَري هو الوحيد المُتاح. وهو الأَجدى كما ظهر في عدة مناسبات؛ منها لبنان قديماً واليمن حديثاً. أو نبقى ننتظر لحين تتغير ظروف أوباما، أو تشفق إيران على الشعب السوري. نحن ما نزال نأمل بحضور مصر التي غابت لأكثر من ثلاثة عقود. وقد أخطأ مُرسي في إدخال إيران على الملف السوري باسم العرب، كما أخطأ بالتسوية بين السلطة الفلسطينية و"حماس" في فلسطين. لكن مصر دولة العرب الأكبر، هي التي تختار طريق الحضور وطريقته. فلا ينبغي أن يطول انتظارنا أو ندخل في مجموعة المنتظرين لأميركا أو لروسيا أو لإيران: وما شرُّ الثلاثة أمَّ عمروٍ بصاحبك الذي لا تصبحينا.