مع انفجار الأحداث التي أطلقها الفيلم السخيف والبذيء "براءة المسلمين"، ما بين مصر وليبيا وباكستان، يعود إلى الواجهة سؤال أساسي لا ينبغي التوقف عن طرحه: ما هو الغرب حقاً؟ وهل الغرب، لاسيّما الولايات المتحدة الأميركية، هو الطرف الذي صنع الفيلم المذكور كما صنع سائر الأفعال الشبيهة به؟ الطريقة العربية السائدة في التعريف بالغرب هي التي تقوم على مزج كل شيء بكل شيء آخر في قالب واحد أحد لا يتغير. فحين تنقل صحيفة غربية مثلاً رأياً ما في موضوع يخصّنا، نبادر إلى نسبة هذا الرأي إلى بلدها وحكومتها. وحين يظهر عمل فني، أكان إبداعيّاً أو مبتذلاً، يتناول شأناً يتعلّق بالمسلمين وبثقافتهم، نسارع إلى اعتبار أنّ الغرب من غير استثناء يقف وراء هذا العمل. لقد كان لافتاً للنظر أنه، وفي وقت واحد تقريباً، نشرت مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية رسوماً مسيئة للإسلام ونبيه، بينما أُعلن عن افتتاح متحف اللوفر الفرنسي جناحاً جديداً للفنّ الإسلامي استغرق التحضير له عقداً كاملاً كما بلغت مكلفته 100 مليون يورو. فأيّ الحدثين يقف الغرب وراءه: الأوّل الذي يُطوى ويُنسى مع رمي الصحيفة في اليوم التالي، أم الثاني الذي يُعدّ أهمّ حدث يطرأ على اللوفر منذ بناء الهرم الزجاجي في 1989، والذي يحفظ الثقافة الإسلامية ويعرضها للعالم بأسره كما يوسّع نطاق التعرّف إليها والتعريف بها؟ غنيّ عن القول إنّ "الغرب" ليس جوهراً واحداً عابراً للتحديد والنسبيّات. والحال أنّ مفهوم "الجوهر" نفسه، كرمز إلى مضمون داخلي للشيء، غير مُدرَك أو محجوب عن الأفهام، إنما تخطّته العلوم الفلسفية والاجتماعية منذ قرنين على الأقل. فـ"الغرب" ينقسم واقعيّاً إلى دول وثقافات وطنيّة وأديان ولغات وطبقات اجتماعية ومناهج تعليم، مثلما ينقسم إلى مصالح وآراء لا حصر لها. والشيء نفسه ينطبق على "المسلمين" الذين هم أيضاً نتاج عديد الدول والثقافات والمذاهب والمصالح التي غالباً ما تتضارب أو تتناقض. فهل يمكننا، كمثل غير حصري، اعتبار الهوية الدينية أو الوطنية كافية لأن توحّد بين أولئك الذين هاجموا القنصلية الأميركية في بنغازي، وقتلوا السفير الأميركي في ليبيا، وبين أولئك الذين تظاهروا متعاطفين مع ضحايا الجريمة ومنددين بالعمل الإرهابي الذي استهدفهم؟ ما لا شك فيه أنّ الإحباط المديد الذي تحسّه الشعوب الإسلامية في عمومها إنما يقف وراء هذه النظرة المعوّجة. ذاك أنه لابدّ من تفسير الهزائم والفقر والتراجع بوجود عدوّ ضخم وجبّار ومتماسك هو الذي تسبّب بكل هذا. ونسبة ذلك إلى غرب واحد موحّد لا يعرف الانقسام إنما تساعد كعزاء للنفس وتبرير لما آلت إليه، تماماً بقدر ما تساعد في العثور على كبش محرقة يصار إلى تحميله ما آلت إليه أمورنا السيّئة. إلى ذلك يلعب الاستبداد دوراً محورياً إذ يعكس صورة واقعنا فتغدو صورة لسوانا أيضاً. فلأنّ الملايين في ربوعنا تهتف لزعيم معبود واحد، ولأنه يستحيل الكلام في مجتمعاتنا عن فصل السلطات أو عن استقلالية يتمتع بها الإعلام عن السلطة السياسية، يصير الغرب في نظرنا مثلنا، موحّد الزعامة ومتجانس الرأي والقرار. ولا بأس هنا بالتذكير بقصص غدت شهيرة عن زعماء عرب كثيرين طالبوا زملاءهم الغربيّين بالتدخل لمنع الإعلام في بلدانهم عن نقد زعمائنا، فكان الجواب اعتذاراً لطيفاً مفاده أنّ السلطة السياسية لا دخل لها في الإعلام. فوق هذا هناك المخزون الإيديولوجي والنفسي الذي تراكم سنة بعد سنة وعقداً بعد عقد. فمنذ الخمسينيات بات مصطلح "الاستعمار" يرمز إلى الغرب كلّه من غير استثناء، وما كاد تعبير "الاستعمار" يتراجع قليلاً في الاستخدام السياسي والخطابي حتى حل محله تعبير "الإمبريالية". ومن أجل تكثير الغرب وتضخيمه، كانت تضاف إليه بين الفينة والأخرى قوى من التاريخ المنقرض كـ"الصليبيين"، أو قوى متآمرة خرافية ووهمية تعمل تحت الأرض وتدير الكون بالأزرار المخفية. هكذا رُسم العالم بوصفه "غرباً" يواجه "مسلمين"، أو "مسلمين" يواجهون "غرباً"، وكان ذلك أقصر الطرق إلى عدم فهم هذا العالم الذي نعيش فيه، وإلى عجز عن التعامل معه بعقل وعقلانية. فقد كان من نتائج ذلك، ولا يزال، تعزيز عقلية المؤامرة كطريقة في فهم السياسة والعلاقات الدولية. ذاك أنّ المؤامرة تنسجم مع رؤية اعتباطية وجوهرانيّة للأمور تستبعد التحليل كما تستبعد المسؤولية الذاتية. وأخطر من ذلك ربّما كان تعزيز الوعي العنصري: فإذا كانوا "كلهم" ضدنا "كلنا"، بات التمييز في ما بينهم لزوم ما لا يلزم، وجاز لنا، من ثمّ، إصدار الأحكام المبرمة عليهم جميعاً من دون استثناء. وتطول لائحة الأمراض السياسية والفكرية التي تنجم عن تلك النظرة الشوهاء. لكنّ المؤكد أنّ هناك مضادّات حيوية ستؤثر عاجلاً أو آجلاً في إحداث التغيير المطلوب. ففي مناخ الثورات العربية، يصح الافتراض بأنّ نظرة أخرى إلى الداخل سوف تشق طريقها تدريجاً. وهي مرشحة أن تكون، في آن معاً، أشد عقلانية وأكثر انشداداً إلى واقع الحال، بعيداً عن تزوير الواقع الذي يمليه الاستبداد ويستدعيه. ولابدّ هنا من الرهان، ولو تأخّر أو تعثر، على أكثر من ثلاثين مليون مسلم يعيشون في المجتمعات الغربية ويتعرفون عن كثب على الغربيين وعلى العناصر الناظمة لحياتهم، كما يتعاملون معهم مباشرة على أصعدة عدة ومتباينة. فهؤلاء يسعهم ذات مرّة أن يتدخلوا لتصحيح صورة الغرب، لا حبّاً بالغرب نفسه، بل حبّاً بذواتهم ومصالحهم، وبالحقيقة تالياً. والراهن أنّ إنجاز هذه المهمّة لم يعد يقتصر على كونه انتصاراً للعقل على اللاعقل، أو للواقع على الوهم والسحر. فهو، قبل ذلك وبعده، بات يطاول قدرتنا على معاصرة عصرنا وفهمه والعيش فيه على نحو فاعل ومؤثر ومحترم. بهذا لا يعود في وسع دجّال تافه أو متعصّب سفيه أن يجرنا إلى الشوارع ويتسبب بموت العشرات في أكثر من مدينة وفي غير قارة.