تقول لنا الخبرة التاريخية إنه بعد تغيير حكومة ما بالقوة، من خلال انقلاب أو صراع أهلي، فإنه من النادر أن تتمكن الحكومة الجديدة من الاستقرار في مكانها، وتأكيد سلطتها خلال فترة وجيزة، دون أن تسبق ذلك فترة من الفوضى والاضطراب. والأحداث المحزنة التي وقعت في ليبيا خلال الأسابيع القليلة الماضية، تدعم وجهة النظر هذه. فقد ترك العقيد القذافي، الذي لقي مصرعه بطريقة بشعة، مجتمعاً مشوهاً يعج بالأسلحة، ويوفر المأوى للعديد من الميليشيات المسلحة، التي تدين بالولاء للمدن التي تم فيها تجنيد أفرادها وتزويدهم بالسلاح والمعدات. كما أن عقوداً من التعذيب والموت في السجون المكتظة، والفساد والسفه والغباء في المستويات العليا من الحكم، أدت إلى رغبة عارمة لدى البعض في الانتقام وتصفية الحسابات القديمة. وفي الحادي عشر من سبتمبر، لقي السفير الأميركي في ليبيا "كريستوفر ستيفنز" مصرعه مختنقاً بالدخان في مبنى القنصلية الأميركية في بنغازي الذي تعرض لهجوم من قبل مسلحين، أسفر أيضاً عن مصرع اثنين من حراس السفارة التابعين لوحدة "سيل" البحرية، ومدير للمعلومات. و"ستيفنز" من الشخصيات المعروفة التي تحظى باحترام كبير في لندن، خصوصاً من قبل هؤلاء الذين يتابعون تطورات الشرق الأوسط عن كثب، حيث أمضى عدة سنوات في ليبيا، وشغل منصب نائب السفير فيها خلال الفترة من 2007 إلى 2009 ، كما كان يجيد العربية التي استخدمها في عمله الدبلوماسي لعدة سنوات. والحقيقة أنه من حق الأميركين أن يفخروا بأنه كان لديهم مثل هذه الشخصية الدبلوماسية الهادئة والكفؤة، في هذه البقعة الصعبة من العالم. وما زال هناك قدر من التشويش وعدم الوضوح بشأن الجهة التي تقف وراء اغتيال السفير في بنغازي التي كانت مهد الثورة الليبية. ويشار في هذا الصدد إلى أن أصابع الاتهام قد وجهت إلى جماعة "أنصار الشريعة" التي حاربت نظام القذافي، غير أن الجماعة أنكرت أي صله لها بذلك الهجوم. ومن النظريات الأخرى التي تفسر الهجوم أن عدداً من الجماعات الجهادية التي كانت تسعى لإعادة توجيه مسار الثورة الليبية، جمّعت صفوفها واستفادت من فرصة الافتقار المزمن للأمن في ليبيا، وشنت الهجوم. ولم يكن الهجوم على مقر القنصلية هو الوحيد؛ ففي الحادي عشر من سبتمبر، كان السفير البريطاني لدى ليبيا، السير دومينيك اسكويث، يستقل سيارة في بنغازي مصحوبة بسيارات بريطانية أخرى، عندما تعرض لهجوم، نجا منه بأعجوبة بعد أن مرقت قذيفة آر بي جي بجواره، غير أن اثنين من طاقم حمايته أصيبا. وقبل ذلك، وفي 12 مايو الماضي، كان المقر الرئيسي للجنة الدولية للصليب الأحمر في ليبيا قد تعرض لهجوم من قبل مجموعة مسلحة إسلامية، ادعت بأن اللجنة المذكورة تمارس أنشطة تبشيرية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل وصل إلى حد مهاجمة المكتب الرسمي لرئيس الوزراء الليبي نفسه في مدينة طرابلس. وعلى ضوء تلك الأحداث كلها، قد يسهل الاعتقاد بأن مقتل السفير الأميركي زجّ بليبيا في منزلق خطر بسبب عدم كفاءة الحكومة التي تتعرض سلطتها للتآكل، وهروب الدبلوماسيين الأجانب والمستثمرين من البلاد بسبب هشاشة الوضع الأمني فيها. بيد أن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. فخلال العام الماضي تم تنصيب مؤتمر وطني عام مؤقت، كما ستتم صياغة دستور جديد للبلاد، وتولى برلمان كامل المواصفات خلال الثمانية عشر شهراً القادمة. كما اختير مصطفى أبوشاقور، وهو أستاذ جامعي كان يعيش في الولايات المتحدة، رئيساً للوزراء، حيث يقال إنه منشغل الآن بالبحث عن شخصيات يمكنها تولي مسؤولية الوزارات المختلفة في حكومته. وهذه الخطوات المهمة حظيت بدعم كبير من جانب الليبيين الذين يتحرقون شوقاً لوضع ماضي بلادهم المضطرب وراء ظهورهم. وهناك انتقادات توجه للحكومة الليبية في هذا الشأن على أساس أن القنصلية الأميركية كانت قد تعرضت للهجوم في شهر يونيو وكان من المفترض على ضوء ذلك أن تقوم الحكومة بتوفير المزيد من الحماية للدبلوماسيين الأجانب العاملين في البلاد. ويتملّك المرء انطباع بأن الغالبية العظمى من الليبيين أصابهم الفزع من مقتل دبلوماسي أميركي لديه سجل ناصع في دعم الثورة المناوئة لنظام القذافي، بهذه الطريقة البشعة. وهناك شك لدى كثيرين في أن يكون السبب في قتل السفير هو موجة الغضب الشعبي العارم بسبب الفيلم المسيء للإسلام، والذي وضع على موقع يوتيوب من قبل أقباط مصريين يعيشون في أميركا، لأن مدينة بنغازي معروفة بكثرة حالات الخروج على القانون، علاوة على أنها ذات سجل في شن هجمات سابقة على الدبلوماسيين الأجانب. وقد قال رئيس الوزراء الليبي في تصريح له مؤخراً: "سوف يكون الأمن، وتشكيل جيش، وقوات شرطة واستخبارات، أولوية قصوى، بالنسبة لي". ليس هناك ما يدعو للظن بأن الحكومة الليبية لن تتمكن من النجاح، فهي قادرة على تحقيقه بالفعل شرط أن تعمل من أجله دون إبطاء، وتتسلح بعزيمة حديدية ودعم شعبي قوي كما تبدى في بنغازي خلال الأيام القليلة الماضية، فضلاً عن توافرها على إمكانيات ضخمة مستمدة من أموال النفط يمكن أن تساعدها كثيراً على تحقيق النجاح المرجو.