أثار الفيلم المسيء مؤخراً عاصفة من الاحتجاجات والغضب في ليبيا، وتونس، ومصر، وباكستان، وأفغانستان، وإندونيسيا، وبلدان إسلامية كثيرة أخرى، أسفرت عن مصرع 30 شخصاً كان من بينهم سفير الولايات المتحدة في ليبيا. وخلال المظاهرات ندد المتظاهرون بالولايات المتحدة، وحرقوا علمها، وحاولوا -ونجح بعض منهم في اقتحام مباني سفاراتها. وكانت النداءات الأبرز للمتظاهرين تتمثل في: مطالبة الإدارة الأميركية باتخاذ الإجراءات اللازمة ضد مخرج الفيلم، واعتذار أوباما للمسلمين. وفي مواجهة تلك الاحتجاجات، طالب بعض المحللين الإدارة الأميركية باتباع استراتيجية فصل تقوم بموجبها ببساطة بقطع ارتباطاتها مع العالم العربي. وأمام تلك المطالبات، أقدمت الإدارة على اتخاذ الخطوة غير المتوقعة المتمثلة في مخاطبة شركة "جوجل" المالكة لموقع "يوتيوب" للعمل على إيقاف عرض الفيلم، كما ظهر أوباما نفسه وهيلاري في إعلان مدفوع على شاشة التلفزيون الباكستاني، أدانوا فيه الفيلم المذكور بقوة وشجبوا رسالته المسيئة. ويقول من شاهدوا الفيلم إن عدم كفاءة مخرجه لا يناظرها سوى فجاجة رسالته المسيئة. فعندما سرب الفيلم في البداية لموقع "يوتيوب"، لم يستدع سوى رد فعل محدود أو لم يكن له رد فعل أساساً. ولكن عندما تم توزيع نسخة عربية منه على منافذ وسائل الإعلام العربية، استدعى الفيلم رد الفعل العنيف الذي كان مخرجه يأمل في حدوثه. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار شخصية مخرج الفيلم، فسنجد أنه شخص يدعى نيقولا باسيلي نيقولا، وصفته أجهزة الإعلام الأميركية ذاتها بأنه "قبطي مصري متطرف يحمل الجنسيتين المصرية والأميركية". بيد أن باسيلي هذا يعرّف نفسه، على رغم ذلك بأنه "مفكر عربي مهتم بالشؤون الإسلامية"، في حين أن الحقيقة هي أنه محتال تم القبض عليه، وأدين في السابق، في تهم مخدرات ونصب، كما مارس الكذب على الصحفيين الذين التقوا به وزعم أنه "إسرائيلي يهودي"، وأن الفيلم قد كلف 5 ملايين دولار تبرع بها أصدقاء له من اليهود الأثرياء. وكان هدف إهانة الإسلام مبيتاً، ويسعى لتحقيق غرض استراتيجي، حيث كان مقصوداً به في الأساس إثارة الكراهية ومشاعر عدم التسامح تجاه الإسلام. وهناك أنباء أن "نيقولا" قد التمس النصح بشأن الكيفية التي يمكنه بها تحقيق ذلك من قس فلوريدا الإنجيلي المتعصب "تيري جونز" الذي عقد في العشرين من مارس 2011، ما أطلق عليه "محاكمة للقرآن" في كنيسته، وقد أثار تحركاته الركيكة تلك استهجاناً واسعاً. ومع ذلك، فإنه لا شيء من هذه التجاوزات يبرر في نظري العنف من دون تمييز، والتدمير الذي مورس بحق أبرياء. فهذا العنف لم يؤد لإلغاء تأثير الرسالة المسيئة، بل أسهم بدلاً من ذلك في الترويج للفيلم الرديء بطرق عديدة لم يكن منتجو الفيلم يحلمون بها. بيد أن المظاهرات والاحتجاجات تكشف، ضمن ما تكشف، عن درجة تعقيد التحديات التي تواجه الديمقراطيات الوليدة في العالم العربي، بصفة عامة. ولا يوجد لدى الفرد العربي العادي في الشارع تقدير كافٍ للأهمية التي تمنحها الثقافة السياسية الأميركية لقيمة حرية التعبير، التي دعت المحكمة الدستورية العليا لوصف تلك الحرية بأنها تمثل "القوام الصلب" لكل شكل آخر من أشكال الحرية. وحرية التعبير في الولايات المتحدة محمية من قبل التعديل الأول للدستور. وتلك الحرية يمكن الحد منها في الولايات المتحدة في حالة واحدة هي عندما تنوي ارتكاب، أو عندما تكون موجهة من أجل التحريض على ارتكاب "عمل وشيك من أعمال الخروج على القانون". وحتى إذا لم يجتز المبدأ هذا الشرط، فإنه يظل محمياً مع ذلك، حتى لو كان يدافع عن العنف والكراهية. وهذه الحقيقة تنتج ظروفاً قد تكون مثيرة لدهشة معظم الناس في العالم العربي. فعلى سبيل المثال سيشعر الناس بالحيرة بالتأكيد، عندما يعرفون أن الطلب الذي تقدمت به الإدارة الأميركية لجوجل لرفع الفيلم من موقع يوتيوب التابع لها، قد رفض لأن حرية التعبير، والحاجة لحمايتها تكون لها الأولوية عادة على رغبات الرئيس. وما يمكن قوله في نهاية المطاف، هو أن الاحتجاجات العنيفة لم تؤد إلى رد الإساءة، بل إنها زادت من درجة التصوير السلبي للثقافة الإسلامية، التي كان الفيلم يهدف إلى تشويه سمعتها في المقام الأول. إن معرفة قيمة الاحتجاج السلمي تؤدي لتعزيز الحكم الديمقراطي؛ والاعتياد على سماع الآراء التي نكرهها ينزع فتيل توتر المواجهة الذي كانت الآراء المسيئة تهدف إلى إشعاله في الأصل. وحرق المصحف الشريف، أو الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سلوكان يفضحان مرتكبيهما الرازحين وراء جدران الكراهية، أكثر مما يسيئان للإسلام. والساعون لمناوأة الإسلام ينبغي كشفهم أمام الجميع، وفضح ثقافة الكراهية التي يصدرون عنها، وهو ما يمثل في رأيي استجابة أقوى وأكثر احتراماً من ممارسة العنف، ضد آرائهم المنحرفة عن الإنسانية. ذلك أن الشخصية العالمية للإسلام، ورسالته الجوهرية في السلام، تمثلان، في رأيي، سمتين رئيسيتين لدين عظيم إلى الدرجة التي لا تسمح له بأن يتعرض للإهانة على أيدي مجموعة من الحمقى، أو أن تتم حمايته -الدين- من خلال الاحتجاجات العنيفة فحسب.