يتبادر إلى أذهان كثيرين من بين الباحثين، وصناع القرار ومتخذيه، والقائمين على الأجهزة الأمنية والاستخبارية في دول شتى، أن حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001 كان تعبيراً جلياً عن "تعولم" الأصولية الإسلامية الراديكالية، من منطلق أنها مست عصب أكبر دولة في عالمنا المعاصر، عسكرياً واقتصادياً، وهي الدولة التي تقود العولمة، وتصنع الجزء الأكثر أهمية من أشكالها وآلياتها ومقاصدها، خاصة في مجالات المال وتقنيات المعلومات والاتصال والاستراتيجيات. ومما زاد من وجاهة هذا التصور وأعطاه مصداقية نسبية، أن رد فعل الولايات المتحدة الأميركية حيال الحدث المذكور أخذ صيغة عالمية، من خلال سعي واشنطن إلى بناء تحالف دولي مناهض للإرهاب، ومن خلال استغلالها له في تحقيق أهداف استراتيجية عميقة ترتبط بسعيها إلى قيادة "العولمة". وهذا التصور يبدو دقيقاً إن كنا بصدد تقويم الخطورة التي وصل إليها تنظيم حركي ذو أهداف سياسية، تتعدى حدود الدول التي ينتمي إليها أفراده، وتحاول أن تلعب دوراً ما في السياسة الدولية المعاصرة برمتها. ولكن التصور ذاته تعوزه الدقة حال الأخذ في الاعتبار المحطات الزمنية التي مر بها هذا التنظيم في طريقه من المحلية إلى العالمية، انطلاقاً من لحظة البداية التي تشكل فيها، وحتى اللحظة التي تمثلت في تفجير مبنى مركز التجارة العالمي ومقر البنتاجون، مروراً بمحطات عدة صنعتها أنظمة سياسية إقليمية ودولية، عبر أجهزة استخباراتها ومخططي سياساتها. ولاستعمالها ما جادت به الحداثة في أعلى صورها، مضت الأصولية الإسلامية بوجه عام لتصبح جزءاً من صور العولمة، واستكملت هذا "التعولم" بمواجهة الولايات المتحدة يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في معركة، إن لم تكن متكافئة على الإطلاق، فإنها تظهر المستوى الذي وصلت الجماعات الراديكالية من الخطورة في التنظيم والتخطيط والتنفيذ من جهة، والرغبة الواضحة في طرح نفسها على الخريطة من خلال "أجندة" موجهة أساساً ضد واشنطن، من جهة ثانية. وحتى عام 1997 لم تكن هذه الجماعات الراديكالية في مصر قد تعولمت سياسياً بالمعنى الدقيق لهذه المسألة، فهي كانت مهمومة بتحقيق هدفها في إزاحة الحكومة، ولم يغب هذا المأرب عن أذهان قادتها، سواء كانوا في كهوف أفغانستان أو في جبال اليمن، أو في الشقق الوثيرة في دول أوروبا والولايات المتحدة ذاتها. ولكن اشتراك أحد قيادات تنظيم "الجهاد" وهو أيمن الظواهري فيما يسمى بـ"الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين" المعروفة إعلامياً باسم تنظيم "القاعدة"، جعل هذا الهدف يقبل بجانبه هدفاً آخر وهو "قتال العدو البعيد" أي الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا على وجه الخصوص، وذلك مع فشل العناصر التي أرسلها تنظيم "الجهاد" في النيل من تماسك النظام المصري، أو هز أركانه وإسقاطه، بالتوازي مع فشل كافة العمليات الإرهابية التي نفذتها عناصر محلية في دفع هذا النظام إلى الانهيار أو التسليم، كما كان قادة هذه الجماعات يتوهمون، ثم ثبت فشلهم الذريع ولم يسقط النظام سوى بثورة شعبية قامت في يناير 2011. وبعد سنوات من تأسيس جماعة "الإخوان" تنظيمها الدولي، وتحت راية "القاعدة" امتزجت أهداف الراديكاليين المصريين، أو تناغمت، مع أهداف أبعد كانت تدور في رأس قيادات راديكالية من دول عربية وإسلامية أخرى، جعلت من الولايات المتحدة "العدو الأول"، لإخراجها من معادلة الصراع العربي- الإسرائيلي. ولم يكن تحول من هذا النوع صعباً على الإطلاق، نظراً لأن "الأفغان العرب" عموماً، ليسوا سوى نتاج لصراعات عالمية، أيديولوجية واستراتيجية، أكسبتهم خبرة نسبياً في التعامل مع قضايا تتعدى حدود أقطارهم، وغذت لديهم ميلاً، تنامى باستمرار، إلى إيجاد "أممية إسلامية". وعبرت أدبيات الراديكاليين الإسلاميين وتصريحات قادتهم، اعتباراً من النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي، بوضوح وجلاء عن هذا التوجه الجديد، ثم جاءت تحركاتهم لتؤكد هذا، إذ إنها اخترقت حدود الدول القومية وساحت في عالم جغرافي تخيلي ينتهي عند نقاط الالتماس الملتهبة في العالم الإسلامي، ويعيد إنتاج التصورات الأكثر شمولية التي تحدثت عن دولة إسلامية تمتد من غانة إلى فرغانة، ولكن هذه المرة، ليس بطريقة دعوية كما اعتادت تيارات إسلامية عديدة طيلة القرن الأخير، بل بشكل حركي عنيف، لا يقف عند حدود الأمنيات، ولا يعترف بالتغلغل البطيء المدروس الذي انتهت إليه حركات إسلامية أممية مسيسة مثل "الإخوان المسلمين"، أو غير مسيسة مثل جماعة "التبليغ والدعوة". ومع ذلك فمن الصعوبة بمكان التسليم تماماً بأن الطابع الأممي للجماعات الراديكالية الإسلامية في العالم العربي صنيع السنوات الأخيرة فقط، كما يتصور البعض، فهو يشكل جزءاً من خطاب هذه الجماعات منذ زمن، وقد تمحور حول ثلاث قضايا رئيسية، هي "الخلافة" و"الجهاد" و"العلاقة مع الغرب". ولكن على المستوى العملي قاد ترتيب الأولويات لدى هذه الحركات إلى جعل تغيير الوضع الداخلي قسراً هو القاعدة الأساسية للانطلاق إلى بناء أنماط عدة من التعاون مع الحركات الإسلامية في بلدان عربية وإسلامية أخرى لإسقاط الأنظمة "العلمانية" الحاكمة، ومد يد العون، المادي والمعنوي، إلى الأقليات المسلمة في مختلف البلدان، خاصة في تلك التي تعاني فيها هذه الأقليات من اضطهاد أو تمييز. ثم أخيراً النظر إلى العالم "غير المتأسلم" على أنه "دار حرب"، ما يستوجب إحياء "الفريضة الغائبة" في مواجهته، وهي الجهاد. ومعنى هذا أن النظرة "عابرة القوميات" في خطاب الحركة الإسلامية الراديكالية وقفت عند حدود التصور الأيديولوجي العام، ولم تترجم إلى حركة في الواقع المعيش سوى عام 1995، حيث وجه القضاء الأميركي اتهاماً إلى أمير "الجماعة الإسلامية المصرية" عمر عبدالرحمن بأنه تآمر ضد المصالح الأميركية، وتورط في الهجوم على مقر الأمم المتحدة في نيويورك وعدة مبانٍ خاصة بالحكومة الفيدرالية الأميركية في المدينة ذاتها، والسعي إلى شن هجمات على منشآت عسكرية أميركية، والتخطيط لاغتيال الرئيس السابق حسني مبارك أثناء إحدى زياراته للولايات المتحدة. وجاء حدث الحادي عشر من سبتمبر ليظهر أن بعض هؤلاء الراديكاليين يشكل جزءاً من حركة تستخدم أهم ما توصلت إليه العولمة في مجالات الاقتصاد والاتصال والمعلومات، وترفض في المقابل ما تطرحه العولمة في مجال الثقافة، من خلال تمسكها الصارم بخصوصية "إسلامية" تضع الآخر الأميركي في موضع العدو الثقافي والعسكري والسياسي. وقد استمر هذا الوضع حين انتقل الصراع إلى العراق والصومال واليمن، والآن ها هو ماثل للعيان في سوريا.