يرحل بنا إبراهيم العريس في كتاب شيق بعنوان "وجوه من زمن النهضة"، الصادر حديثاً عن مؤسسة الفكر العربي إلى تلك الحقبة التاريخية الغنية والمفصلية في تاريخ العرب الحديث، فكرياً وسياسياً، والتي اصطلح على تسميتها بـ "عصر النهضة"، أي الشطر الأعرض من القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين. في تلك اللحظة شبه الفريدة في تشكل الوعي العربي وانسلاخه عن الإرث العثماني الإمبرطوري الذي حكم المنطقة لقرون طويلة ارتطمت أسئلة كبيرة وحاسمة بعضها ببعض جوهرها البحث عن مسارات الانفكاك من التخلف التاريخي الذي وجد العرب أنفسهم يواجهونه مع انهيار الخلافة التركية وانكشاف هشاشتها. كانت "صدمة أوروبا" وتقدمها المدهش مقارنة بواقع العرب والمسلمين المتردي المحرك الأساس الذي شغل عقول وأفهام أجيال متلاحقة من المفكرين والإصلاحيين العرب، وهي "الصدمة" التي يؤرخ لها بالحملة الفرنسية على مصر، ثم المحاولة الأولية الجادة للتحديث والأوربة والتي قادها محمد علي لاحقاً. في "وجوه من زمن النهضة" يختار العريس 17 "نهضوياً" يرى أنهم ساهموا في تأسيس انتقال منهجي في الوعي العربي أسه استزراع العقل والعقلانية وأرضيته الشائكة محاوله مزاوجة الحداثة الأوروبية مع الإسلام. يتنوع طيف أولئك النهضويين ويمتد على يمين ويسار السؤال المركزي: هل بالإمكان القيام بتلك المزاوجة وكيف؟ في التصدي لهذا السؤال تنوعت الإجابات، فكان ثمة جيل من أولئك النهضويين (المحافظين) لا يرى ضرورة في الاتجاه نحو أوروبا، بل يرى أن طريق الانفكاك من التخلف يكمن في إعادة استنهاض الذات والتراث وإصلاحه. وكان ثمة فريق يرى ضرروة تبني الحداثة الأوروبية باعتبارها الشكل والنظام الثقافي والسياسي والاقتصادي الذي نجح في نقل أوروبا من عهود الانحطاط والإقطاع إلى عصر العلم والتقدم والنجاح. وكان هناك فريق وسطي يرى أن الحل، هو اجتراح صيغ توفيقية بين التقليد والحداثة الأوروبية واختيار ما يناسب العصر من الاثنين، بما يحمي الهوية والأصالة، لكن في ذات الوقت الانفتاح الانتقائي على الغرب وقيمه ونظمه. "النهضويون" الذين يختارهم العريس في رحلته ينتمون في مجملهم للفريق الوسطي الثالث، ولا نرى تمثيلاً كافياً وموازياً للفريقيين الآخرين (بما يحرم الكتاب من سجالية فكرية كانت ساخنة ومثيرة للتفكير والأفكار على مدار تلك العقود). نرتحل في الكتاب مع أفكار المفكرين التاليين: رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، عبد الرحمن الكواكبي، علي مبارك، محمد رشيد رضا، خير الدين التونسي، جرجي زيدان، شكيب أرسلان، أمين الريحاني، جبران خليل جبران، محمد كرد علي، طه حسين، عباس محمود العقاد، توفيق الحكيم، فاطمة (روز) اليوسف، يحيى حقي، ونجيب محفوظ. لكننا لا نعثر على آخرين لا يقلون شهرة وتأثيراً وانفعالاً بالسؤال المركزي، وانحيازاً للحداثة سواء بالقطع مع الماضي، أو بالدعوة الصريحة لتحييد الدين عن السياسة بحسب التجربة الأروروبية (من أمثال شبلي شميل، علي عبد الرازق، قاسم أمين، ساطع الحصري، أو هشام شرابي). يرى العريس أن الانجاز التاريخي لـ"الفريق الوسطي"من مفكري عصر النهضة يكمن في تعزيزهم سلطة العقل وكسبهم مساحات مهمة على حساب الجمود والتكلس الذي تراكم خلال قرون طويلة مدعياً حماية الدين والنص. وإن جرعات التعقلن الفكري والسياسي التي جاءت أساساً من خلال إعادة قراءة الجانب العقلاني والتقدمي في التراث نفسه، واستخدامها وتوظيفها لاستجلاب القيم الحداثية ومزاوجتها مع واقع العرب والمسلمين، وهي آلية تمنح هذه القيم "براءة اختراع" محلية تسهل استزراعها في بيئات متشككة ورافضة لما قد يأتي من الغرب. وبوضوح أكثر يقول العريس: "... وفي يقيننا أن اكتشاف مفكرينا المحدثين لعصر النهضة هو الطريقة الأفضل للعودة إلى اكتشاف التراث والتاريخ الإسلاميين ... واكتشاف تراثنا وتاريخنا عبر الفكر النهضوي هو الوسيلة الفضلى التي تمكننا من إدراك حقيقة هذا الدين العظيم .. هذا الدين الذي لا يزال يشع بأنوار العقل حتى يومنا هذا وسيظل يشع بأنوار العقل مهما وضع من الغام في طريقه، سواء أكانت الغاماً تأتي من الخارج أم الغاماً تأتي من الداخل". مشكلة مقاربة العريس، في مآلاتها النهائية، هي ذاتها المشكلة الحادة التي حاول الالتفاف عليها تيار النهضويين الوسطيين خلال تلك العملية التاريخية لإحداث المزواجة المأمولة والمتمثلة في "حتمية" الشرعنة الدينية لكل ما هو قادم من خارج نطاق منظومة القيم التقليدية والدينية والماضوية وإعادة انتاجه محلياً، وأسلمته، ثم تقديمه للناس والمجتمع. التطبيق العملي لهذه الآلية، وليس مساءلتها فكرياً وسجالياً، وخلال عقود "ما بعد عصر النهضة"، يقول بأن تثبيت أرضية القيم والتلاقح الحضاري على أساس الشرعنة الدينية، وليس الاستجابة لجوهر اشكالات الاستنهاض، يسعر المعركة في إطار نصي وليس عقلانياً. بمعنى أن قبول قيمة ما أو رفضها انتج سجالات دينية- دينية، نصية في مجملها، وليس عقلية- عقلية كما كان الاتجاه العريض لرواد فكر النهضة. وبمعنى أكثر وضوحاً، فإن آلية الشرعنة التي تبدو نظرياً عقلانية ومصلحية في تنظيرها، كما في كتابات محمد رشيد رضا مثلاً، تفقد كثيراً من دقتها وعمقها عن التطبيق العملي، ومكونها السلفي (الذي يتحفظ على وجوده العريس) الذي قد يبدو في النص النظري مقبولاً ومتوازياً مع مكونات أخرى، سرعان ما يطغى على كل شيء آخر ويتصدر التطبيق. من هنا فإن التطبيق العملي لأفكار رضا، وعبر مدرسة "الإخوان المسلمين"، انتج انزياحاً كبيراً على حساب العقلانية ولصالح السلفية. ولأن ميدان أفكار وسجالات إسلاميو ما بعد رشيد رضا محددة بآلية الشرعنة، فإن النص الأكثر تطرفاً كان دوماً هو الذي يسجل نقاطاً أكثر ويجر التيار العريض وراءه. ومن هنا، مرة أخرى، يمكننا أن نفهم بروز الأحزاب والتيارات السلفية التي تنافس "الإخوان" وتزايد عليهم على الأرضية الدينية النصية ذاتها، بما يؤثر ليس فيهم وحسب، بل وفي التيارات المعتدلة برمتها التي تصير متهمة بكونها غير متوائمة تماماً مع النص، وتحاصر به. Email: khaled.hroub@yahoo.com