"لا تستعجلْ لكنْ لا تسترخ". يقول ذلك الشاعر الألماني غوته، وهذا مفتاح الاستراتيجية الألمانية في إنشاء أوروبا الموحدة. ما بين دواعي استعجال، وبالأحرى استنجاد أوروبا، واسترخاء، وبالأحرى تأنّي ألمانيا، أجرت دول الوحدة الأوروبية مراجعة جذرية لسياساتها في شؤون الخارجية والدفاع، وطرحت مشروع إنشاء وزارة أوروبية كبرى للشؤون الخارجية، وجيش أوروبي، وسوق موحدة للصناعات العسكرية الأوروبية، ودولة أوروبية فيدرالية يُنتخب رئيسها بالتصويت المباشر. ومَنْ غير الألمان، الذين يؤمنون بأن المصائب فرص يتطلع في وقت الأزمة الأوروبية الطاحنة إلى مزيد من أوروبا وليس العكس؟ لقد عشتُ أكثر من نصف عمري بين أوروبا الشرقية والغربية، وأراهن بضمير مطمئن على الوحدة الأوروبية، التي تجمع بين قيم الأوروبتين في العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وتتزعمها ألمانيا التي لم تستعمر العرب، أو تهدر دمهم. خريف التفكير الأوروبي الطويل يحلُّ كخريف أوروبا في الصباح الباكر، وقد يجيء ربيع الوحدة الأوروبية كالربيع الأوروبي في نهاية يوم شتائي. والمزيد من أوروبا شعار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، يدعمها في ذلك جوزيه بوروزو، رئيس اللجنة الأوروبية، الذي أعلن في خطابه الاتحادي أمام البرلمان الأوروبي: "علينا أن لا نخاف من الكلمات. إننا نحتاج إلى التحرك باتجاه إنشاء الدولة الفيدرالية، هذا ما نحتاجه، وهذا هو أفقنا السياسي". تفاصيل الدولة الاتحادية تضمّنها مشروع أشرفت عليه ألمانيا بمشاركة فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا، وصادقت عليه 11 دولة في الوحدة الأوروبية. وهدف المشروع تحويل الوحدة الأوروبية إلى لاعب حقيقي على المسرح الدولي يعتمد الأغلبية في قراراته الرئيسية الخاصة بالخارجية والأمن، ويتجاوز الشلل الحالي، الذي يتيح لعضو واحد عرقلة اتخاذ القرارات. وينص المشروع على تمثيل موحد للوحدة الأوروبية في المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وإصدار سمة دخول أوروبية موحدة، وإنشاء حرس حدود أوروبي موحد. ويخفف المشروع العبء البيروقراطي للوحدة الأوروبية، وذلك بتقليص نظام المفوضين من 28 يمثلون الدول الأعضاء إلى تنظيم عنقودي من 8 قطاعات، يديرها مفوضون رئيسيون وثانويون. والطريق إلى الفيدرالية الأوروبية مرصوف بعملة "اليورو" التي تبنتها 17 دولة أوروبية. طُرحت اليورو في التداول أول مرة عام 1999 وتُعتبر العملة الاحتياطية العالمية الثانية بعد الدولار، وتبلغ الكمية المتداولة منها حالياً نحو التريليون. "ولا تراجع عن اليورو"، حسب رئيس البنك ماريو دراغي، الذي أعلن مطلع الشهر الحالي خطة إنقاذ تستند على شراء كميات لا محدودة من سندات أسهم الدول المعرضة لخطر الإفلاس، وفي مقدمتها إسبانيا وإيطاليا. وكان كلا البلدين قد أحجم عن قبول خطط الإنقاذ التي قدمت كفالات ماليه لليونان وإيرلندا والبرتغال، مقابل التزامها بسياسات التقشف، وتقليص الإنفاق الاجتماعي، وخفض الأجور. ولا يستمد مشروع الدولة الأوروبية الفيدرالية قوته الواقعية من مصادقة الدول الأوروبية الكبرى عليه، بمقدار ما يستمدها من مصادقة المحكمة الألمانية الدستورية العليا أخيراً على اتفاقية إنشاء ما يسمى "آلية الاستقرار الأوروبي" التي تطلق 500 مليون يورو (حوالي 640 مليون دولار) لمعالجة أزمة الديون الأوروبية. وقد استبق ارتفاعُ سعر اليورو للشهر الرابع على التوالي، وارتفاع أسواق الأسهم الأوروبية قرارَ القضاة الألمان الذي يوضع موضع التنفيذ الشهر المقبل، ويبدأ عملياته بالكامل مع العام الجديد. ويعبّر المشروع عن تحول الاقتصاد إلى عامل رئيسي لتغيير سياسات منطقة اليورو. فألمانيا ليست مجرد أكبر اقتصاد أوروبي، بل استطاعت أن تصبح خلال العقد الماضي أكثر تنافسية عن طريق إصلاحات هيكلية قاسية تريد الآن أن تراها في اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال. "والرسالة من صاحب مال منطقة اليورو بسيطة: إذا كنا قادرين على فعل ذلك فأنتم أيضاً تقدرون"، حسب لاري إيليوت، المحرر الاقتصادي لصحيفة "الجارديان". وتستند القوة الألمانية إلى ثلاثة عوامل قائمة بذاتها، وهي أولاً القاعدة الاقتصادية القوية التي تعتمد على شبكة شركات صغيرة ومتوسطة الحجم، وكثير منها عائلية تعمل في مجال التكنولوجيا. وتتوافر لهذه الشركات، التي تعتبر العمود الفقري للاقتصاد الألماني فرص الحصول على تمويلات طويلة المدى، وقوة عمل عالية المهارة. ونشأ العامل المهم الثاني لقوة ألمانيا الاقتصادية عن إجراءات اتخذتها لتطوير قدرتها التنافسية عقب إطلاق عملة اليورو، واستجابت آنذاك اتحادات العمال لسياسات خفض الأجور، وعزز ذلك قدرة الشركات الألمانية على المنافسة مع الشركات الأجنبية. العامل المهم الثالث الذي عزز القدرة الألمانية نشأ عن تحول القوة الاقتصادية العالمية من الغرب إلى الشرق. فالشركات الصينية والهندية المتطلعة إلى بناء قطاعاتها الإنتاجية عثرت على السلع الإنتاجية التي تحتاجها لدى الشركات الألمانية الصغيرة، والعائلية غالباً، التي تنتجها. "لقد ربح الحلفاء الحرب العالمية الثانية لأن علماءنا الألمان أفضل من علماء ألمانيا". التهكم الظاهري لقول إيان جيكوب، سكرتير الزعيم البريطاني ونستن تشرشل، يخفي حقيقة منسية. فعدد جوائز نوبل التي فاز بها الألمان حتى عام 1933 كان أكثر من أي بلد آخر، بما في ذلك بريطانيا والولايات المتحدة مجتمعتين. يذكر ذلك كتاب"العبقرية الألمانية" الذي يكشف عن دمار أنزلته النازية بعلماء ومهندسي ومثقفي وفناني ألمانيا يفوق ما أنزلته بالبلدان الأخرى. وابتكرت عبقرية اللغة الألمانية عبارة "الانتصار على الماضي" التي تتكون من كلمة "مدمغة" واحدة من 25 حرفاً. وقد انتصر الألمان على ماضيهم النازي بطريقة ألمانية مدمغة إذا صح التعبير. ولا يعرف التاريخ مهزومين كالألمان يحددون مصير المنتصرين عليهم. ندرك الحجم الملحمي للقصة عندما نكتشف أن المهزومين المُطالَبَين بإنقاذ المنتصرين لا يزالون يداوون الجروح العميقة لهزيمتهم. فالألمان أنفقوا ما يقرب من تريليوني دولار لتغطية نفقات توحيد شطري بلدهم، الذي اقتسمه المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية. ويُطلب من ألمانيا الآن المساعدة في إنقاذ دول أوروبية غنية من الإفلاس، فيما يواصل المواطن الألماني حتى عام 2019 دفع نحو 6 في المئة من دخله ضريبةً لتغطية نفقات توحيد بلده. المؤرخ الألماني أندرياس ورسشينج يستخدم تعبير "نصف الهيمنة" لتصوير وضع ألمانيا الحالي في أوروبا. "وضع إشكالي ما بين موقع غير مهيمن بما يكفي لفرض إرادة ألمانيا على جيرانها الأوروبيين، إلا أنه قوي بما يكفي لاعتباره خطراً". واعتذرت المستشارة الألمانية ميركل بهذا الوضع "نصف المهيمن" الذي يجعل ألمانيا "كبيرة وقوية لكنها متمددة أكثر من اللزوم، وليست كبيرة وقوية بما يكفي لمواجهة التوقعات حول إنقاذ اليورو". مخاوف أعضاء الوحدة الأوروبية من الوضع غير المهيمن لألمانيا عبّر عنها التصريح التالي لوزير الخارجية البولندي، الذي أصبح عبارة مجنحة حالما قاله: "أخاف قوة ألمانيا أقل مما أخاف استنكافها عن العمل". مستشار في العلوم والتكنولوجيا