انتظر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكثر من شهرين قبل أن يتحدث علناً عن أحد جوانب التحدي الذي يواجه الرئيس المصري الجديد محمد مرسي على صعيد العلاقة مع تل أبيب. فقد قال نتنياهو إن مرسي لم يذكر اسم إسرائيل مرة واحدة منذ توليه رئاسة مصر في الأول من يوليو الماضي. ولم تمض أيام قليلة على كلام نتنياهو هذا حتى أثار الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشكل رسمي أحد جوانب التحدي الذي يواجه الرئيس مرسي على صعيد العلاقة مع الفلسطينيين. فقد أبلغ عباس المبعوث المصري لدى السلطة الفلسطينية في رام الله السفير ياسر عثمان، في 18 سبتمبر الجاري، احتجاجاً مبطناً، لكنه واضح وقوي، على اللقاء الذي عقده رئيس الوزراء هشام قنديل مع رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنية في اليوم السابق (17 سبتمبر). وليس كلام نتنياهو (أو ملاحظته) واستياء عباس إلا تعبيراً عن مأزق يواجه السياسة الخارجية المصرية الجديدة في العلاقة مع إسرائيل من ناحية، وحركة "حماس" ومن ثم الفلسطينيين من ناحية ثانية. وما هذا المأزق إلا نتيجة ضرورية لانتقال السلطة في مصر إلى جماعة "الإخوان المسلمين" التي ينتمي إليها مرسي وتستند عليها حكومة قنديل، بغض النظر عن عدد الوزراء الذين ينتمون إلى هذه الجماعة فيها. إنه المأزق الذي يواجه أية حركة سياسية معارضة تقول ما تشاء عندما تتولى الحكم ويقع عليها واجب إدارة الأمور بطريقة واقعية. ويزداد المأزق حين تكون هذه الحركة أيديولوجية تتبنى اتجاهاً محدداً تجاه القضايا التي يتعين عليها أن تتعامل معها واقعياً حين تصل إلى السلطة. وقد يكون هذا المأزق أكبر، وربما أكثر حساسية، في حالة جماعة "الإخوان" لسببين: أولهما أنها اتخذت موقفاً معادياً ضد إسرائيل على أساس أيديولوجي وعقدي، وليس فقط للعوامل السياسية المتعلقة بمسار الصراع على فلسطين وفي الشرق الأوسط بوجه عام. وثانيهما أن هذه الجماعة صعدت إلى السلطة المصرية في لحظة تشهد انقساماً فلسطينياً حاداً بين طرفين ينتمي أحدهما (حركة "حماس") إلى التيار الذي تقوده الجماعة والتنظيم العالمي الذي تعتبر هي محوره وركيزته. لذلك لابد أن يكون السؤال مطروحاً عن كيفية معالجة السياسة الخارجية المصرية لهذا المأزق والتحديين الماثلين فيه حتى إذا لم يتحدث نتنياهو عن موقف مرسي ولم يلتق قنديل هنية ويعبر عباس عن قلقه من دلالات هذا اللقاء. وسيكون هذا السؤال مثاراً بشكل أوسع نطاقاً في الفترة القادمة لأن إسرائيل قد لا تكتفي بما يريحها حتى الآن، وهو إعلان التزامها الكامل بمعاهدة السلام الموقعة عام 1979، وتأكيد هذا الالتزام في كل مناسبة على لسان مرسي ووزير الخارجية. فكان واضحاً على مدى ما يقرب من ثلاثة أشهر أن مرسي حريص على توصيل هذه الرسالة إلى إسرائيل بأكبر قدر من الوضوح. لكن ثمة أمراً آخر مهماً بالنسبة لإسرائيل لا يزال غامضاً، وهو كيفية إدارة العلاقات الثنائية وخصوصاً فيما يتعلق بمستوى الاتصالات، وهل ستكون هناك لقاءات بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإسرائيلي، ومتى يمكن أن تبدأ. فهذه مسألة حساسة بالنسبة إلى رئيس ينتمي إلى جماعة ملتزمة بموقف أيديولوجي صارم، وليس فقط سياسياً ضد "الكيان الصهيوني". كما أنها ذهبت إلى أبعد مدى في مهاجمة الرئيس السابق "مبارك"، وسلفه "السادات"، بسبب تطبيع العلاقات مع هذا الكيان واستقبال قادته في القاهرة وشرم الشيخ. لذا كانت هذه المسألة هي الأكثر إرباكاً للرئيس مرسي في الأسابيع الماضية. فقد امتنع عن الرد على مكالمة هاتفية من نظيره الإسرائيلي بيريز، وعلى رسالة بعث بها إليه لتهنئته بتوليه الرئاسة. غير أنه عندما تلقى رسالةً ثانيةً من بيريز لتهنئته بحلول شهر رمضان، اضطر لتوجيه وزارة الخارجية بإرسال برقية شكر. وعندما نقلت وسائل إعلام إسرائيلية ما جاء في هذه البرقية، نفتها الرئاسة المصرية، ثم صمتت حين نشرت إحدى الصحف نصها وصورةً لها. وكان هذا مؤشراً على ارتباك بشأن قضية مستوى العلاقات السياسية مع إسرائيل في ظل رئاسة مرسي. فقد كان مبارك واضحاً في هذا الأمر، بغض النظر عن تقييم مجمل سياسته، عندما أعلن أنه لن يزور إسرائيل رسمياً إلا بعد حل قضية فلسطين، لكنه استقبل كل رؤساء حكوماتها وبعض وزراء الخارجية والحرب فيها. لذلك سيكون على مرسي تحديد موقفه على هذا الصعيد في أسرع وقت لأن الغموض يمكن أن يؤدي إلى ملابسات قد تصعب معالجة بعضها إذا تفاقمت. والمهم هو أن يكون هذا الموقف مقنعاً. وهو لن يكون كذلك إلا إذا اقترن بما يؤكد أن رئيس مصر يتصرف من منطلق مصالحها وبحكم أنه مسؤول عن حماية هذه المصالح، وليس بحكم خلفيته "الإخوانية"، ويتحرك في ضوء التوازنات الإقليمية والدولية وليس على أساس الحسابات الخاصة بالعلاقة مع تنظيمات "الإخوان" هنا وهناك. فإذا اختار أن تكون اللقاءات الثنائية مع مسؤولين إسرائيليين على مستوى وزاري، لابد أن يكون هذا الخيار مستنداً على أسباب يمكن الدفاع عنها ومصحوباً بشرح يقدم حيثيات كافية حتى إذا لم تكن مقنعة للجميع على المستوى الدولي. وربما تكون العلاقة مع حركة "حماس" هي الوجه الآخر لهذا المأزق وليس فقط التحدي الثاني أمام سياسة مصر تجاه المسألة الفلسطينية بمعناها الواسع. فليس سهلاً بأية حال رفع مستوى العلاقة السياسية مع "حماس" وخفضها مع إسرائيل. لذلك تنطوي العلاقة مع "حماس" على مشكلتين في هذا الإطار، لأن تجاوزها مستوى معيناً يؤثر بقوة في المعادلة الفلسطينية المحكومة بانقسام حاد، فضلاً عن أثره في العلاقة بين مصر وإسرائيل. وهذا يفسر قلق الرئيس الفلسطيني من اللقاء بين قنديل وهنية. فقد أعطى هذا اللقاء انطباعاً بأن مصر تتعامل رسمياً مع حكومتين فلسطينيتين، الأمر الذي اعترض عليه عباس مطالباً "بضرورة مراعاة وحدة التمثيل الفلسطيني، والحذر من المحاولات الرامية إلى العبث بهذه القضية المصيرية". وأحدث احتجاج عباس ارتباكاً في أوساط الرئاسة المصرية التي صدر عنها ما يفيد بأن الرئيس المصري ليس لديه برنامج لقاءات مع وفود فلسطينية، ثم قيل إنه يلتقي بصفة غير رسمية قادة حركة "حماس" التي تضغط على "الإخوان المسلمين" في مصر لتدعيم العلاقات معها، ليس فقط على مستوى اللقاءات، ولكن أيضاً على صعيد التمثيل، حيث تطالب بفتح مكتب لها في القاهرة. وهكذا أصبح ضرورياً إجلاء الغموض في سياسة مصر تجاه مستوى العلاقة السياسة مع إسرائيل، وتحديد طبيعة علاقتها مع "حماس"، بوضوح لا بديل عنه إلا ارتباك مرشح لأن يزداد وينتج عواقب قد يكون بعضها وخيماً.