تكتسي مدخرات الوافدين في دول مجلس التعاون الخليجي أهمية كبيرة ليس لاقتصادات بلدانهم من خلال التحويلات فحسب، وإنما لاقتصادات البلدان الخليجية أيضاً، وخصوصاً أن هذه التحويلات تزداد بنسب كبيرة سنة بعد أخرى نتيجة لزيادة أعداد الوافدين من جهة وارتفاع مستويات المعيشة في دول المجلس من جهة أخرى. ولذلك، فقد طرحنا قبل عشر سنوات ضرورة إيجاد القنوات اللازمة لاستقطاب جزء من هذه المدخرات واستثمارها في دول المجلس في محاولة للحد من التحويلات التي ترتفع بنسبة تتراوح ما بين 10و 20 في المئة سنوياً، إذ بلغت في العام الماضي 55 مليار دولار، مقابل 40 مليار في عام 2008، حيث يمكن إعادة ضخ جزء من هذه التحويلات في شرايين الاقتصادات الخليجية. ومع أنه تم الأخذ ببعض هذه التوجهات، كالسماح للوافدين بالتعامل في البورصات الخليجية وتخفيف القيود عليهم للاستثمار العقاري، إلا أن توجهات أخرى لا يزال عليها بعض التحفظ. ففي عام 2003 طرحت هنا فكرة تأسيس صناديق تقاعد للوافدين، ليأتي البنك الدولي بعد عشر سنوات تقريباً ليطرح نفس الاقتراح في الأسبوع الماضي داعياً دول المجلس لإقامة مثل هذه الصناديق التي تعتبر مؤسسات استثمارية فعالة في الكثير من بلدان العالم. وبما أن الطرح الجديد يأتي من البنك الدولي، فلربما يلقى بعض الترحيب في الوقت الحاضر، على اعتبار أنه مؤسسة عالمية تسعى إلى تقديم استشاراتها للبلدان الأعضاء. ومع أهمية هذه الخطوة فيما لو تم الأخذ بها، فإنه لابد من الاستفادة من تجارب صناديق ومؤسسات التقاعد والتأمينات الاجتماعية العاملة حالياً بدول المجلس، حيث تكتسي تجربة السنوات العشر الماضية أهمية كبيرة للمؤسسات المقترحة، فالصناديق الحالية مستمرة في عملها بفضل الدعم الحكومي السخي، علماً بأن بعضها يعاني من عجز اكتواري مزمن، وذلك بسبب افتقار هذه الصناديق لرؤية استثمارية واضحة، بل إن بعضها لا يملك مثل هذه الرؤية. ومن هنا، فإن الأنظمة المقترحة للوافدين لا يمكنها العمل بالأسلوب المتبع حالياً، وإلا فإنها ستشكل عبئاً على الموازنات السنوية لدول المجلس، مما يتطلب وضع تصورات أكثر مهنية تتعلق بأسلوب عمل هذه الصناديق التي من المفترض أن تعمل وفق أسلوب القطاع الخاص لتساهم في تنشيط القطاع المالي والاستثماري، وفي التنمية بشكل عام في دول مجلس التعاون الخليجي. إذن من حيث المبدأ هناك ضرورية تنموية تتعلق بتسخير مدخرات الوافدين العاملين في دول المجلس لخدمة التنمية والحد من التحويلات الخارجية بفتح المزيد من قنوات الاستثمار لاستقطاب مدخرات الوافدين، بما فيها الصغيرة منها. وفي نفس الوقت، فإنه لابد من اعتماد أسس جديدة لعمل هذه الصناديق لتفادي النواقص المصاحبة لمثيلتها القائمة، وبالأخص وضع سياسات استثمارية يمكن من خلالها تنمية القدرات المالية وتجنب العجز الاكتواري المرهق والمزمن، فمؤسسات التقاعد والتأمينات الاجتماعية ليست مؤسسات للعون الاجتماعي وتقديم المساعدات، وإنما هي مؤسسات تنموية لها شأن كبير في التنمية وتطوير أسواق المال والمساهمة في إقامة مشاريع تنموية تساهم في تنويع مصادر الدخل الوطني. وفي حالة الاقتراح المقدم من البنك الدولي، فإن القطاع الخاص الخليجي وبمساندة من الدولة من خلال تقديم التسهيلات والدعم غير المالي المتعدد يمكن أن يقوم بهذه المهمة التي تتطلبها مرحلة التنمية التي تمر بها دول المجلس، والتي تستلزم تسخير القدرات المالية للمواطنين والمقيمين -وهي كثيرة ومتعددة- لرفد عملية التنمية باستثمارات جديدة تساهم في زيادة معدلات النمو وإقامة المزيد من المشاريع التنموية وتوفير المزيد من فرص العمل التي يتزايد الطلب عليها في دول المجلس.