كانت المناظرات جارية بين فقهاء المذاهب ورؤساء الأديان قديماً، وعلى وجه الخصوص في أيام الخليفة المثقف عبد الله المأمون (ت 218 هـ)، وعندما نصفه بالمثقف لدينا أسبابنا، لأنه فَعل ترجمة كُتب الثقافات الأُخر، وحاول تفعيل العقل مقابل النَّص، وتقدمت بغداد حتى صارت قبلة للمناظرة والدَّرس، ووضع شروطاً وآداباً للمناظرة، وجه بها عندما تجاوز أحدهم. قال: "الشَّتم عيٌّ، والبذاء لؤم. إنا أبحنا الكلام وأظهرنا المقالات، فمَن قال بالحق حمدناه، ومن جهل ذلك وقفناه... فإن الكلام فروع فإذا افترعتم شيئاً رجعتم إلى الأُصول" (ابن طيفور، كتاب بغداد). ونعتبر بهذه الرّواية، فراويتها أحمد بن طاهر المعروف بابن طيفور (204 - 280 هـ) شاهد عصر، تجد في كتابه تفاصيل عزف عنها المؤرخون لاهتمامهم بأخبار السِّياسي من الحوادث الجسام مع ندرة في الاجتماعي والثَّقافي. ويكفيه أنه وقتذاك اعترف للمرأة بعقل فصنف "بلاغات النِّساء"، وهو أحد البلغاء ولد ومات ببغداد. جاء هذا مِن باب التذكير بتاريخ مدينة السَّلام، التي يُراد لها أن تكون قفراء صفراء. مرَّت قرون وقرون، وها هو الشِّجار البغيض يجري بين مَن يدعون الفقاهة والعِلم، وتأسست فضائيات للشَّتم العي، على حد عبارة المأمون، يستحي مَن يُشاهدها أن يكون منتمياً إلى هذا أو ذاك. يفور بها تنور الطَّائفية والكراهية، وهي تبث الخرافة ومغيبات العقل. ليس الأمر يتوقف على شجار بالشَّتائم والسباب أو بالركل أحياناً، إنما يؤتى بأطفال للتدريب على التَّنابز بين المذاهب، وتسخير رياض الأطفال ومدارسهم لتهيئة الجيل كيف يكون طائفياً بارعاً. كان هذا المقال مِن ثلاثة نُشر منها اثنان، على صفحات "الاتحاد"، في شأن الحوار بين المذاهب، وكانتا خاصتين بمبادرات الملوك، وهذه خاصة بممارسات الفقهاء العلماء، ولن نتوقف عند هذا العدد. قُدمت الدَّعوة لعقد "المؤتمر الإسلامي بالقدس" (7 ديسمبر 1931)، ومع أن المصادر كثيرات لكننا نعتمد على ما سجله قلم الأديب والعلامة التونسي عبد العزيز الثَّعالبي (1944)، لأنه مثقف وأديب قبل أن يكون سياسياً أو فقيهاً، بمعنى أنه أخف مِن غيره إذا شاء الميل إلى مذهب أو طائفة، فالثَّقافة توحد ولا تُفرق. وجهت دعوات الحضور إلى وجهاء المذاهب المعروفة، مِن سُنَّةٍ وشِيعةٍ، بلا مؤثر سياسي، فحضر الإمامية مِن النَّجف والزَّيدية مِن اليمن، والإِباضية مِن عُمان. يومها ثارت ثائرة علماء مِن الأزهر، إلى جانب قوى كانت تُحضر لقيام دولة إسرائيل، والحجة أن هذا المؤتمر قائم لإعادة الخلافة العثمانية، وأن آخر السَّلاطين المبعد عن سلطنته هو أحد المدعوين، وكانت الرَّغبة قائمة في أن يسد فراغ الخلافة ملك مصر فؤاد الأول (ت 1936)، لذا عارض فكرة الدَّولة الدِّينية حينها الشيخ علي عبد الرَّازق (ت 1966) في "الإسلام وأُصول الحكم" (1925)، الذي فُصل بسببه مِن مشيخة الأزهر، لأنه قال: الدَّولة سياسة لا ديانة. فحسب الأزهر صار خارجياً. أما الشَّيخ محب الدِّين الخطيب (ت 1969)، فحسب رده على دعوة المؤتمر، أن ما يمنعه مِن الحضور هو توجيه الدَّعوة إلى الشَّيخ عبد الرَّازق، وكذلك وجود عبد العزيز الثَّعالبي، الذي قال فيه: "هذيان الثَّعالبي بالخلافة البابوية"، أي فصل الدِّين عن الدَّولة" (رسالته إلى أمين الحسني). وأسباب أُخر منها أنه ضد حوار مذهبي إلا بخضوع الآخر. لكن الحقيقة التي لم يرها الشَّيخ محب الدِّين أن المجتمعين لو كانوا أقروا بكلامه وتعصبه، والإيمان بالدَّولة الدِّينية التي يريدها، ما اقتربت المذاهب مِن بعضها، ولا حصل مثل هذا المؤتمر! كان غرض المؤتمر الأساس هو دعم القدس أمام الهجرة اليهودية، وهذا لا يتم إلا بحضور مختلف مذاهب المسلمين، فوجه الدَّعوة مفتي الدِّيار الفلسطينية الشَّيخ أمين الحسيني (ت 1974)، وقبلها الجميع إلا ما ذكرنا. وفي حينها ينسب الوجيه الفلسطيني فخري أفندي النَّشاشيبي (اغتيل 1941) أنه لا يريد عقد مؤتمر بهذا الحجم والحضور يُكرس لخصمه الشَّخصي المفتي الحسيني فساهم بإثارة مؤامرة الخلافة المزعومة. قصة المؤتمر طويلة، نلتقط منها ما يُعلم كيف يمكن ردم الخلافات وتجاوز العقبات المذهبية، بما عبر عنه محمد صالح بحر العلوم (ت 1993): "فلنا بدفن الماضيات صفاءُ". ولكي يفتضح تأخر الحوار ومرور ذكرى القدس بمعارك ومشاجرات هذا العام (2012) الطائفية، بالقياس لما كان عليه قبل واحد وثمانين عاماً. كانت أول قرارات المؤتمر، ضمن عدة قرارات، وأقتبسه نصاً عن الثَّعالبي، أحد ركني المؤتمر مع أمين الحسيني: "أن يؤم المسلمين في صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى سماحة المجتهد الكبير الحجة العلامة محمد حسين كاشف الغطاء إمام الشِّيعة، وذلك تمكيناً للرَّابطة الإسلامية بين مذاهب الأُمة. وقد تنفذ هذا القرار في يوم الجمعة الواقع في غرة شعبان سنة 1350، وائتم بسماحته نحو عشرة آلاف مِن المسلمين، بينهم السُّنَّي والشِّيعي والإباضي، ومندبو مذاهب أُخرى في المؤتمر، وقد قابل المسلمون تنفيذه بعظيم الابتهاج" (الثَّعالبي، المؤتمر الإسلامي بالقدس 1931). ومِن قرارات المؤتمر طبع الخطبة التي ألقاها كاشف الغطاء بشأن "الوحدة الإسلامية ونموها، وبشأن الدَّسائس الخاطئة" (المصدر نفسه). وانتخب المؤتمر ضياء الدِّين الطَّباطبائي (ت 1969)، رئيس وزراء إيران (1921)، سكرتيراً عاماً، والمفتي الحسيني رئيساً. كان مِن بين المصلين بإمامة الإمام الشِّيعي كبار مِن مذاهب السُّنَّة: الشَّيخ محمد رشيد رضا (ت 1935)، صاحب مجلة "المنار"، والشَّيخ نعمان الأعظمي (ت 1936) واعظ العراق، ومفتي القدس محمد أمين الحسيني، والشَّاعر الهندي محمد إقبال (ت 1938)، والمصلون مثلما تقدم عشرة آلاف غالبيتهم مِن أهل السُّنَّة. فتأمل سماحة النَّاس، وانظر مَن يسب ويجرح ويطالب بالثَّأر! نجح مؤتمر القدس (1931) لأن الحاضرين كانوا أهل علم لا أهل ثورة وثأر، بينما لهذا العام (2012) كانت الطَّائفية طاغية عليه، وتحولت القدس إلى متاجرات، وخالطها عناد طائفي فظيع، فالإسلام السِّياسي، بشقيه، الشيعي والسُّنِّي، هو الطَّاغي، وهذا جاء يحمل سيفاً غمده الدِّين، وحسب أبي العلاء (ت 449 هـ): "طموح السَّيف لا يخشى إلهاً/ ولا يَرجو القيامة والمعادا" (سِقط الزَّند). أراها مقصودة مِن المعري في وهم ما يُسعى إليه مِن وهمٍ، فمطلع القصيدة: "أَرى العنقاء تكبُرُ أن تُصادا/ فعاند مَن تُطيق لهُ عِنادا". أقول: هل أكثر وهماً مِن صيد العنقاء!